كتاب سبر

سمعنا دق قهوة..!

لي صديق قديم.. شاعري، أنيس، انيق المعشر، كريم اليد، ذرب اللسان.. لكن فيه عيب

شرعي.

وعيبه هذا أنه “يتقهوى”!!

أحسست بهذا العيب عندما لاحظت أنه كثيرا ما يتصل بي مساء الخميس – بعد الحادية عشرة

مساء – ويعلن لي محبته ويسرد لي تفاصيل من حياته ويصرح لي بكرهه لبعض الأشخاص.

وتأكدت من هذا العيب عندما سافرت إلى بلده يوما في نهاية أسبوع، وبعد وليمة عشاء

بحرية أعدها لي، (كان فيها قليل الأكل).. دعاني إلى قهوة في “ند الشبا”.. فذهبت معه

بسيارته إلى ذلك النادي الرائق الشاعري..

هناك طلب قهوته الخاصة..  وبدأ يخربط! ويقول لي أسرار بشر يزعجني أن أعرف

خصوصياتهم..

 وقد مرّ  عليّ الوقت ثقيلا وأنا أجامله وأراه أمامي كيف يصغر ويتشوه..

ولما لاحظ – بما تبقى من وعيه – أنني قد تضايقت من الجلسة،  طلب مني أن أغادر إن

أردت.

قغادرت على الفور.. ولمت نفسي أنني أهدرت وقتا طويلا بسبب مجاملة لا داعي لها.

فأنا أحببت ذلك الصديق الصاحي، بكامل وعيه، بشعره الجميل، ولطيف قوله، وظريف

حكاياته، وليس علي أن أتحمل هذا الرجل المتقهوي الفاقد!

سبحان الله، العقل زينة.. وما أبشع من يفقد عقله بكامل ارادته..

منذ ذلك الوقت قررت أن افصل بين مشاعر الصداقة .. عن مشاعر المجاملة.

وفي المرة الثانية التي قرر فيها أن يصحبني إلى “ند الشبا” اقسمت عليه أن يترك

“قهوته” في ذلك اليوم اكراما لوجودي، وكان كريما فضحّى بأنسه من أجلي.

وكم كانت سعادتي أنني استطعت أن أثنيه عن مشروع “الفقد” الذي عزم عليه.. ولو ليوم

واحد، وكم أكبرت فيه أن لبّى لي طلبي.

بعدها أصبحت أكثر جرأة وصراحة في سؤاله عن سبب ادمانه “القهوة”

واكتشفت أنه مثل غيره كثير… يدمنونها ولا يحبونها، بل يخجلون منها..

قال لي: ادع الله لي أن يكفيني شرها، والله اني تأذيت منها وابتليت بها، وأخذ يسرد

لي قصصا غريبة تعرض لها بسبب هذا “البلاء” فكان يقع في ورطة تلو الأخرى، كان منها

أنه صدم رجلا آسيويا.. وتكفل بدفع دية اصابته أحد الشيوخ!

في هذه الأيام وهو يستعد لرمضان قرر أن يترك قهوة الخنا.. ويكتفي بقهوة الرجال.

… هل كان يمكن أن يحدث مع صديقي سيناريو آخر للعلاقة..؟

بالتأكيد..

كان يمكن أن أجامله وأشجعه أو أشاركه… وكان يمكن أن أذهب معه شيئا فشيئا إلى

عالمه وأصبح نديمه الدائم كما حدث مع آخرين عرفوه.

أو كان يمكن أن تأخذه العزة بالإثم فيتهمني بالعقد والتخلف!

أو كان يمكن أن أبتعد عنه نهائيا حرصا على نفسي ولن يكون لي أثر في حياته..

لكن الله أكرمني ألا أخسره ولا أخسر القليل من الخير في داخلي.. وأحرث الكثير من

الخير في داخله..

هذه ليست دعاية للذات، ففي النفس من العيوب ما الله به عليم، مصداقا لقول ابن

مسعود: لو علمتم من نفسي ما أعلم لحثوتم على رأسي التراب.

ولكنها قصة للعبرة.. فكم جاملنا اشخاصا، على حساب مبادئنا وقيمنا وكرامتنا

وكرامتهم..

كم مرة جلس أمامك صديق وأخذ يطعن في أعراض أو أنساب الناس وأنت تبتسم ولم تقل له:

غير الموضوع من فضلك.

كم مرة فتح لك زميل موبايله وأخذ يريك صور صديقاته وأنت تبتسم.. وخجلت أن تقول له:

اتق الله.

كم مرة دعاك صديق إلى “أمر ما” فطاوعته.. وفي داخلك شيء يقول “لا” لكنك ترددت

واخترت أن تكون مسلوب الإرادة..

لم لا نبدأ بتغيير أنفسنا..

لم لا نصبح أكثر شجاعة في قول الحق..

لم لا ننحاز إلى الخير فينا وفي الآخرين وننصره..

لم لا نبدأ بأن نستر عيوبنا ونخفيها ثم نعمل على التخلص منها نهائيا..

قال سلمان العودة”أن أهميتك ليست بحجم من يعرفونك ، بل بحجم من يتأثرون بك ويحدثون

التغيير”.

غير نفسك وغير من حولك.. قوّ قناعاتك بقيمك.. ودافع عنها باخلاص..

تأكد أن الناس تحب الخير.. والنصيحة الطيبة ستقع على النفس الطيبة كما يقع المطر

على الأرض الخصبة..

والتغيير الذي تريده يبدأ من عندك ليس ممن حولك. غير نفسك و سيتغير الآخرون معك..

قال عيسى القطامي في زهيرية جميلة:

(عالجت نفسي على العادات ماطاعت

أمرار هدّدتها بالحبس ما طاعت

سايلتها بالرضا.. والله ما طاعت

النفس هذي بما عوّدتها تعتاد

واحذر تخدعك على الخسة ترى تعتاد

أوصيك تصعد بها للعز إن طاعت)

ومشوارنا طويل في الحديث عن تغيير النفس.. فهات جرحك واتبعني!

***

تنبيه: “القهوة” هي اسم من أسماء “الخمر” عند العرب، بالإضافة إلى معناها المعروف!