كتاب سبر

المندسون في الخليج !!

تدعي السلطة في الخليج أنها حنونة ورؤوفة ورحيمة بالعالمين, تباهي دائما بعطفها ومالِها ومِنَحها التي لا تنتهي على المواطنين الصالحين، فهي تصرف الرواتب شهريا ودون توقف, وتقدم القروض العقارية للباحثين عن سكن من مالها الخاص، ولا تفرض الضريبة على أحد, تُشركهم معها في ما تيسر من عائدات النفط دون منّة، ومع ذلك لا تملك الثقة الكاملة بموظفيها المواطنين، اعتادت أن تبعث في مجالسهم من يسترق النظر ويسجل الكلام ويقيس الولاء والانتماء!. رجل قصير القامة محدود المعرفة مجهول الهوية يرصد الأعين من حوله وينقل العبارات الغامضة، عله يلقي القبض على انطباع حانق على أداء المعازيب!.

ونحن مع التحديث والتطوير دائما، مع تحديث التقارير المرفوعة للأعلى, وتحديث نوعية القائمين على عمليات الرفع، فرغم أن كتابا وصحفيين يعملون في صحف وقنوات مرموقة يقومون مشكورين بهذا الدور، وبشكل دائم, وبوقاحة منقطعة النظير، وبحجة أنهم مستقلون ومختلفون وضد المؤامرات التي تستهدف دولنا، وضد الإرهاب، إلا أن شيئا لم يتغير، أعني هنا النوعية والمضامين لا الشكل، لذا ومن باب المحبة والولاء والانتماء والمواطنة الصالحة والخوف الكبير على الأوطان، علينا جميعا أن نقدم ما تيسر من إسهامات بهذا الخصوص، داعين المولى أن يكتب هذا في ميزان أعمالنا لدى وزارات الداخلية الموقرة، ويوم الحساب اليسير لا العسير, حساب الأرض لا حساب السماء، وهذه المقالة “التقرير” عربون محبة لتعاون قادم!.

في الأشهر القليلة الماضية، وبالصدفة المحضة، ودون نوايا مبطنة أو مسبقة لتشكيل تنظيم سري، قابلت عددا كبيرا من شباب وشابات دول مجلس التعاون الخليجي الموقر، وأعتذر عن توثيق الأرقام بشكل دقيق, فلم أنتبه لخطورة الموضوع وضخامة الأعداد إلا بعد أن قطعت شوطا كبيرا في هذه اللقاءات، وما دفعني لتقديم هذا التقرير على علاته الإحصائية، استشعاري للخطر الكبير المحدق ببلداننا الخليجية الآمنة المطمئنة، وإدراكي للمسؤولية الملقاة على عاتقي في رفع ما يلزم للإشعار بأهمية هذا الخطر، ومشاركة لكثير من زملائي الصحفيين الناشطين في هذا المجال, وفي ما يلي الملامح العامة لهذا التغير الهائل الذي طرأ علينا دون سابق إنذار ..

لم تعد الأغاني والأناشيد الوطنية ملهمة لدى هذا الجيل، لا يقبل أحد منهم أن تأسر روحه الوطنية وتخدرها “أغنية” كل ما يحيط بعملية إنتاجها فاسد حتى الثمالة، لا يعترف هؤلاء بمطرب الدولة وكلماتها وملحنيها وإن أطربوا، فهؤلاء يحبون الوطن وليس أناشيده الوطنية “الرسمية”، ولم تعد تنطلي على جموع الشباب نظرية “النصف الممتلئ” لصحفي ساذج من الدرجة العاشرة يتحدث بصفاقة عن الجزء الذي يغرف منه تحديدا ويراه جيدا ويقدم كل الخدمات التالية مقابل الحصول عليه، الصحفي الذي يرى إنشاء جامعة أو مستشفى انجازا عظيما لدولة نفطية تكفي زكاة عائداتها لإنشاء دولة متكاملة جديدة!، علماء الدولة الرسميون وخطباءها أصبحوا خارج نطاق التأثير الفعلي أيضا، يحتاج الشرعيون في هذا الزمان درجة عالية من الصدق والاستقلالية والانفتاح لاقتحام هذا العالم الجديد، فماذا بقي بعد؟

سقط الإعلام الرسمي بامتياز من حسابات هذا الجيل إذا، وسقطت السلطة الدينية بلا أدنى نقاش، وسقط مفهوم الأبوّة التقليدي، فالحاكم ليس أبا لغير أبناءه في الدولة الحديثة، أحاديث الرضا والستر والأمان والمقارنات مع الآخرين لم تعد مجدية, وشاهد هذا الجيل سقوط الخيارات السياسية والاقتصادية والإدارية لمعظم قياداته، أصبحت عبقرية الحكم مثار تندر وسخرية لدى قطاعات واسعة من هؤلاء الشباب، وفي الوقت الذي سلبت فيه الثورات العربية عقول وقلوب الجيل الخليجي الجديد، حيث الانتفاضات الشعبية العارمة لنيل الحرية والكرامة , يراقب هؤلاء بحسرة بالغة فعل حكوماتهم المناهض والمضاد لهذه الثورات ولخياراتها! فماذا يريدون؟.

الصدمة الكبرى أن الحديث الرئيسي بين هذه المجاميع لا يتعدى موضوع المشاركة، يريد هؤلاء المشاركة الكاملة في إدارة شؤون الدولة , ثقتهم في الإدارات الحالية معدومة تماما، وسيادة الأمة بالمعنى الفعلي لهذا المفهوم هو سقف طموحاتهم، ليس طمعا بالسلطة أو رغبة بالحصول على مغانمها، بل إدراكا منهم لفشل الاستفراد المطلق بإدارة شؤون المجتمع والدولة طوال العقود الماضية، والترجمة الحرفية لهذا الفشل يلحظها الشاب مع خروجه من المنزل وصولا لقضاياه الكبرى في السياسة والاقتصاد والأمن وغيرها،الأمر الذي يدفع بـ شابة في الحادية والعشرين من عمرها للحديث عن سيادة الأمة ومرجعيتها، وبآخر تخرج من الجامعة حديثا لترديد الكلام عن مبدأ المواطنة والمساواة الكاملة كأسنان المشط.

كل ما يتحدث عنه الشباب ويتبعهم فيه آخرون هو الملكيات والإمارات والسلطنات الدستورية، وهم على ثقة كاملة أن هذه الدول متجهة لا محالة نحو هذا المصير الذي يحقق مطالب شعوبها وبقاء واستقرار أنظمة الحكم فيها، لا أحد يتحدث عن سقوط أنظمة أو ثورات شعبية عارمة، بل إن ما حال بينهم وبين الثورة في البحرين هو هذا الأمر، فهؤلاء الشباب لا ينكرون أبدا دفء العلاقة مع السلطة وإن توترت أحيانا كثيرة , ولا يمحون حسناتها وإن سجلوا اعتراضهم على كثير من سوءها، الإيمان الكبير بتحول تدريجي آمن وسريع يشكل عنوانا للنقاشات الشبابية الدائرة في الخليج، الأسر الحاكمة في أكثر من بلد تتآكل بسبب خلافاتها , والأجيال الحاكمة الجديدة لا تثير إعجاب أحد، الكاريزما والهيبة التي ارتبطت بالجيل القديم من أبناء أسر الحكم في الخليج بدأت تتلاشى شيئا فشيئا، وأخطاء من بقيت منهم لا تغتفر أبدا في نظر هؤلاء الشباب، الوعي المتنامي لدى الغالبية العظمى ووسائل الاتصال الحديثة والتجارب العربية المحيطة بدأت تضغط كثيرا على التغيير، وهم يتصورون – الشباب – أن تشديد القبضة الأمنية وصرف شيء من الأموال سيختصر من المسافة التي تفصلنا عن هذا التغيير المنشود ولا يزيدها أبدا.

هذا بعض ما يمكن تدوينه من عناوين , وهناك ما يمكن تركه للأيام القادمة، والكثير على ما أظن، فانظروا أيها السادة ماذا أنتم فاعلون!.

alialdafiri@