كتاب سبر

البيت الأبيض.. دار الخلافة !

العدل أساسُ المُلك، إسلامياً بات هذا المفهوم تعبير مجازي في طي النسيان وغير صالح للاستخدام الآدمي منذ عدة عقودٍ مضت، فـ في ظل العولمة وكل ما يصاحبها من مفاهيم سياسية وقانونية وإجتماعية حديثة، برز مصطلح الشرعية، وإنفرد متوحداً ليسد فراغ هذا المفهوم وينوب عنه في تأسيس الُملك وضمان إيصال الأنظمة السياسية وإستمرارها في سُدة الحكم!

وبصورة أكثر وضوحاً، الشرعية كمفهوم لا كمصطلح موجودة ومتداولة منذ العصور الغابرة وحتى يومنا هذا، فكما هو ثابتٌ ومعلوم هي أحد الأركان الأساسية للعدل، إلا أنها لا ترقى لأن تكون في منأى عنه، لأن كليهما مكمل للآخر، يعني وبعبارة أخرى، الظلم يسقط شرعية بقاء الظالم والعدل لا يشفع لبقاء مغتصب السلطة.

غير أن الساسة المسلمين قد تفوقوا على عقلية أدسون، وعبقرية بسمارك، ودهاء بلفور، وحنكة تشرشل، وكُل طفرات نوابغ العلم والفكر والسياسة عندما تمكنوا من فك رموز هذه المعادلة الصعبة، والتحايل على نظرية آليتها المعقدة.

هذه النظرية سرعان ما تحولت إلى قانون إبتدعه الطامحون للوصول إلى السلطة وتأسيس الكيانات السياسية المستقلة من خلاله في العصر العباسي الأوسط، وذلك عن طريق إعلان التبعية (الإسمية) للخليفة العباسي مقابل الحصول على الشرعية التي (تستثني) ركن إقامة العدل، و (تمنح) الحكم الذاتي المطلق، والدلالات على هذا الأمر كثيرة ومتعددة، بدءاً من دولة الأغالبة في (إفريقيا) ومن ثم السلاجقة في (الأناضول) فالخوارزميون في (فارس) والطولونيون والأخشيديون في (مصر) والحمدانيون والأيوبيون والمماليك في (الشام) والمرابطون والموحدون في (المغرب والأندلس)، فأيدها الأعيان واستبشر بها التجار وارتضاها الفقهاء وتقبلتها الشعوب إلى أن وصل حال الأمه إلى ما سيأتي الحديث على ذكره.

فبسبب تغير ظروف ومعطيات العالم الإسلامي، وما صاحب ذلك من إختلال في موازين القوى، إبتداءاً من سقوط خلافة بغداد، ومروراً بزوال سلطنة إسطانبول، وتوقفاً عند حُقبة ما بين مطرقة الإستعمار وسندان الإستقلال، نتج فراغ سياسي كبير، جعل من الساسة المتأسلمون يبحثون عن آلية بديلة يستمدون منها شرعية تأسيس أنظمة حاكمة جديدة وضمان خلودهم في سلطتها إلى أبد الآبدين، ولعدم قدرة العقلية الإسلامية الحديثه على التفكير والإبتكار، فقد إضطرت المومياءات المتأسلمة إلى إستخدام السياسة الميكافليه (الغاية تبرر الوسيلة) من أجل الوصول إلى مرادها، فولوا وجوههم شطر بلاد العم سام، ليعقدوا البيعات للخليفة أوباما، المعز لدين الله الأميركي ومن سبقه من خلفاء واشنطن، عاصمة المسلمين وحاضرة ملكهم، ليصبح البيت الأبيض بذلك، داراً للخلافة التي تمنح الشرعية في الحكم، ولتحل الخزانةُ الأميركيةَ محل بيت مال المسلمين الذي يأخذ من أغنيائهم ليغدق العطاء لفقرائهم!

ومع مرور الزمن، وتوالي المحن، أصبحت جذور ولاء هذه البيعة المتوارثه، متأصلة في الأدمغة، ومعقودة في الأعناق، ومترسخة في القلوب منذ ذلك الحين وحتى هذه اللحظة، بدلالة عدم مقدرتنا كشعوب لا مومياءات التخلص منها، فهاهم مناوئي البشير يستنجدون بالخليفة، ومنكوبي حماة ينعمون بحمى سفيره، ومجلس ليبيا الإنتقالي يترقب إعترافه، وأقطاب معارضة مصر يتعاقبون على عتبات قصره، ومتظاهري اليمن يسّتجدون تدخل جيوشه، ومناوئي السلطات الخليجية يلوذون بجواره.

وبمقارنة الحال بين خلافتي الأمس واليوم، سنجد أن التبعية للخلافة العباسية الفعلية مجرد تبعية إسمية فقط، بخلاف التبعية الفعلية للخلافة الأمريكية الإسمية!

فيبدو أن الفارق بكلا الحالتين هو مقدار الكرامة بين ساسة اليوم المتأسلمين وساسة الأمس المسلمين، فهل من مدرك؟