كتاب سبر

لماذا أقرأ؟

ينظر إلي , وأنا ممسك بكتاب , بنظرة أقرب إلى البله! يحدق فيّ لبرهة , ما يلبث بعدها , فمه ولسانه , إلا قليلا , حتى يتناغما بسؤال , ألفته كثيرا , ألفته حتى الملل والسأم والسام (الذي هو الموت !) : أشوفك تقرأ كثيرا….هل تستفيد مما تقرأ ؟!!. أرفع رأسي من الكتاب , لأعطيه نظرة تجمع بين الأبوة الحانية والاحتقار! وينفرج ثغري عن ابتسامة لا تبعد كثيرا عن ابتسامة ليث المتنبي الشهيرة ! وأجيبه , على مضض , رغبة مني بإنهاء هذا الحوار المتكرر , بإجابة لا تشفي غليلي , ولا ترضيه .لذا قررت أن اكتب ردي على سؤاله …الغريب! لعل وعسى, اترك هــالأسى , ذلك بأن أطبعه على ورقة, وأطويها في جيبي , وعندما يسألني كعادته, أخرجها من جيبي بصمت, ليقرأه, لعلة يتدبر, ويرعوي عن غيّه, هو وغيره !…. لعل وعسى.

 لن أخوض بتاريخ القراءة , فلهذا كتبت الكتب وصنفت المصنفات والحديث فيه يطول… كليل العاشقين ! ولن أخوض بحديث أن الإسلام أمرنا بالقراءة , وطلب العلم , فالمنابر , وخطب الجمع , تلوك هذا الحديث أسبوعيا , وعبر القنوات الفضائية يوميا , و يصل إلى الأذن غالبا , لكنه لا يقر في القلب. مدخلي سيكون بسيطا جدا. إذا أمسكت كتابا, أي كتاب, يجب أن تعرف أن ما تمسكه بيديك , ليس ورقا بين دفتين , سكب عليه حبر , بل هو خلاصة أفكار شخص ما , بثها على الورق . ولا توجد تجربة في العالم – لأي شخص – مهما بلغت سطحيتها, لا تستخرج من بينها الجواهر أو الفوائد أو حتى معلومة , لم تكن تعرفها!

 بعد عمر , من قراءة , جميع أنواع الكتب , غثها وسمينها , وما تقذف به المطابع بلا كلل أو ملل , من سير وتاريخ واقتصاد وأدب كالروايات ودواوين الشعر , قديمها وحديثها , وغيرها . بدأت منذ مدة ليست بالقصيرة , بالشعور بنوع من الصداقة , معها , حتى أنني إذا كنت بدولة أجنبية , أجد نفسي وقد دلفت إلى إحدى المكتبات , وأخذت أقلب وأتفحص الكتب , على الرغم من كونها كتبت بلغات لم تتعمق أواصر الصداقة بيني وبينها , لكن ما إن أقف بين تلك الرفوف , حتى يهرب إحساس الغربة مدبرا, وأحس بأنني بين أصدقائي , فالكتب والمعرفة التي تأتي من خلالها, تجعلك تتآلف مع البشر باختلاف أجناسهم, وأديانهم ومذاهبهم ومشاربهم . لتتسع دائرة صداقتك , فكأنما غدوت صديقا لكل إنسان .

هنا يجب أن نشكر المتنبي – الأستاذ – عندما قال صادقا:

 أعز مكان في الدنى سرج سابح             وخير جليس في الزمان كتاب

خير جليس , أجدت ورب الكعبة  يا أبا محسد . بعد عمر من القراءة , بدأت أشياء , وإن شئت قل أحاسيس, بالتكشف أمامي , وتتضح شيئا فشيئا, بذهني , أحببت أن أشارككم فيها, وأشارك أيضا, صاحبنا, صاحب السؤال الممل المتكرر!

أولا: كلما قرأت أكثر, أحسست بجهلي أكثر! قال سقراط: أنا لا أعرف وأعرف أنني لا أعرف , الآخرون لا يعرفون ولا يعرفون أنهم لا يعرفون . و أنا أزيد عليه أن الذين لا يعرفون , دائما يهرفون- أيضا – بما لا يعرفون ! .لذا نجد أولئك الذين يقرأون كماً من الكتب , ثم يجلسون على الأرائك , يحتسون القهوة , ويتحدثون , بأمر كل عظيمة , كأنما حيزت لهم المعرفة بحذافيرها , فيتعالمون , ويسكبون آرائهم البليدة في مسامعنا , ويوجهون سهام نقدهم لكل ما لا يعجبهم دون ضابط . وما أكثرهم ! … كالهم على القلب . مع نهاية كل كتاب , أتساءل , يا إلهي… كم كنت جاهلا قبله !  وكم أنا جاهل بعده !  لم أكن أعرف أغلب هذه المعلومات من قبل , فأحس حينها بحجم المعرفة والعلم في هذه الدنيا , وضآلة حجمي أمامها , وأني مهما قرأت وقرأت , أعلم علم اليقين , أني لن أؤتى منها …إلا قليلا ! وهذا ما يدفعني ويزيد من عزمي ويحرضني على المزيد من القراءة , والاطلاع , خصوصا عندما تتملكك الرغبة.. بأن تعرف! ولا أحد – على حد علمي – يلقي لك بالعلم ويصبر عليك , سوى ..الكتاب , فأتخذه صديقا!

 ثانيا:عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا    فلما دهتني , لم تزدني بها علما!

هكذا أنشد الأستاذ , قبل 1100 سنة , وكما لمحت من قبل , الكتب تختزل التجارب الإنسانية , وكلما قرأت أكثر , تعطيني شعورا – حزينا – بأن حياتنا ما هي إلا كشهاب يضيء للحظات , ثم ينطفي . أو كأنها لحظة عابرة في الكون كلمح البصر . فأستغرب وأستغرب من غرور هذا الإنسان , ومن غروري أيضا!  تغريني الحياة للحظات , وتزين لي نفسها , وتوحي لي بأني خالد مخلد . فتعيدني الكتب إلى جادة الصواب , وتريني , كم أنا صغير , أين ذهب القادة العظماء و الأدباء والفلاسفة والشعراء؟  وتلك الجيوش؟ والحضارات التي سادت العالم , وأين ذهب كل ابن أنثى , وكيف حمل على آلة حدباء , وإن طالت سلامته .و أسائل النفس . هل أين أنا من هؤلاء ؟ , يرتد إلي الجواب , فأقنع , وأصمت بعده , واقرأ , قصيدة كتبها , أبا محسد , بدموعه :

أرق على أرق ومثلي يأرق              وجوى يزيد وعبرة تترقرق

جهد الصبابة أن تكون كما أرى         عين مسهدة وقلب يخفق

ما لاح برق أو ترنم طائر                إلا انثنيت ولي فؤاد شيق

وعذلت أهل العشق حتى ذقته            فعجبت كيف يموت من لا يعشق

أبني أبينا نحن أهل منازل                أبدا , غراب البين فيها ينعق

نبكي على الدنيا وما من معشر         جمعتهم الدنيا , فلم يتفرقوا

أين الأكاسرة الجبابرة الألى               كنزوا الكنوز فلا بقين ولا بقوا

من كل من ضاق الفضاء بجيشه         حتى ثوى فحواه لحد ضيق

خرس إذا نودوا كأن لم يعلموا            أن الكلام لهم حلال مطلق

والموت آت والنفوس نفائس              والمستغّر بما لديه الأحمق !

فأرجع لحجمي الطبيعي , وأرى هذا الكون الفسيح , فأحتقر الدنيا , احتقار مجرب , كما احتقرها ذات يوم ,أبا محسد!

هنا أقف أمام حكمة صينية -وما أكثر الحكم الصينية: (لكي تعمر الأرض , عليك بثلاث , تؤسس أسرة , وتزرع شجرة , وتؤلف كتابا ). فتأمل.

  أختم بدعوتين  , أولاها دعوة الناس للقراءة , و الثانية أدعوهم بها للكتابة, وتوثيق تجاربهم الحياتية الناجحة , والعلوم المكتسبة . فلو جولنا أبصارنا بين أرفف الكتب بمكتبات الغرب , سنجد كتبا في كل شي, وأعنيها , نعم …في كل شئ , حتى ليخال لي , أن أحدهم إذا وجد طريقة جديدة , يشرب بها الشوربة , لصنف فيها المصنفات , ربما غدا best seller , وهنا يجب أن ننتبه , أن تراكم الخبرات , وتدوينها , هي شهادة الميلاد الحقيقية لأي حضارة .

العاملان اللذان ذكرتهما بالأعلى , أرى فيهما , خلاصة فوائد القراءة , ربما تختلفون معي , ربما تضيفون لهما عوامل أخرى , كل هذا جيد , ويؤسس للمستقبل .

 أتمنى – فعلا – أن أكون دللت بأصبع , على موطن الجمال في القراءة , وشرحت  – ولو ببساطة – ما يختلج في نفس القراء , ولا يستطيعون تبيانه , ليصفوا متعتها , التي حرم منها – وا أسفاه – كثير من الخلق . 

وأخيرا , يا صاحبي , البليد , هل أراحك هذا الجواب ؟ لا أظن ! عموما و على أية حال , فالأستاذ , قال بيتا , لا أود أن اذكره الآن , عن أمثالك الذين يؤتى بهم من بلاد بعيدة !

تمت