كتاب سبر

الارتجال في الأدب

سأحاول أن أقفز معكم للموضوع رأساً، الارتجال،  فن من الفنون وعنصر من عناصر التاريخ والحركة البشرية . وهو الطريق نحو المفاجأة والإبداع وأيضا هو طريق النكسات.


وقد ترسخ في جسومنا وعقولنا قبل الإسلام وبعده، هل بدأنا بالفلتة التي وقى الله المؤمنين شرها؟ وهل كان فتح الأندلس إلا أحد تبعاتها ؟ وهل وهل… . لن أنتهي إن أردت العرض لا الحصر وستملون وأمل، وهنا سنضع التاريخ السياسي الإسلامي على الرف, ونكتفي بالأدب فهو قصدي وحوله أادندن .


دأب الشباب ممن يدرجون ويلعبون على طريق الأدب في طريقهم نحو الشعر أو القصّة على الارتجال ؛ يلتمع سنا فكرة في باله فيصرخ : آتوني بورقة وقلم أكتب لكم شعرا خالداً.. هكذا أظن! ثم يلقمها حاسوبه وبضغطة على زر تتفشى في فضاء الإنترنت كالوباء قد تروج قصيدته أحيانا لعوامل نفسية أو عصبيّة لفترة أحياناً , لكنها سرعان ما تتحول في غالب الأمر إلى جرح ينزف وذكرى تسوء وتنوء بشاعرنا الغرّ, ويومها سيعض على يديه, يوم لا ينفعه الندم.


في الحقيقة, بعد قراءة وتدبر, وعلمت ويالجهلي قبلها؛ أن الشعر العربي, أبعد ما يكون عن الارتجال كما يظن البعض واهماً، طبعا ستتقلب وجوه وترعد وتبرق ويحول بيني وبينهم كلام يتحشرج في صدورهم, لكن, رويداً ورفقاً حتى أنتهي.. نعم هناك أمثلة كثيرة وقصص لا تنفد تروى عن الارتجالات الشعرية تدل على سرعة البديهة والملكات اللغوية الهائلة.. أمثلة نتسلى بها ونرويها بفرح طفولي…مثلاً:


                                  إن كان سركم ما قال حاسدنا ..  فما لجرح إذا ارضاكم ألم


كلنا يقول أن هذا البيت ارتجله المتنبي بعدما قذفه سيف الدولة بـ (طفاية سجائر)  أو محبرة كانت بمتناول يده فأسالت دمه بسبب بيته الشهير :


                               الخيل والليل والبيداء تعرفني  .. والسيف والرمح والقرطاس والقلم


عقب بعدها السيد ابوفراس الحمداني الشهير بزين الشباب متسائلاً بخبث وببرود إنكليزي أصلي: وماذا ابقيت لسيف الدولة؟


سؤال ماكر من حاسد قالٍ و مجنون يحادث الحمام في السجون .. ما علينا . وبعيدا عنه وعن مهارة ودقة ابن عمه ( سيف الدولة ) في قذف الأجسام الصلبة عن بعد.. لا تصمد هذه الرواية أمام التمحيص والتدقيق, إذ إنهم يروون أن بعد هذه القصيدة، نفذ المتنبي تهديده بتركه ضميراً عن ميامنه, لكن , لاينتبه أحد أن بينها وبين رحيله الفعلي أعواماً قاربت الخمسة.. وإن صمدت-جدلاً- فهي مثال على النادر الذي في رأي الفقهاء لاحكم له.


لنستمع لهذا الإقتباس من الجاحظ من سفره ( البيان والتبيين ) “ومن شعراء العرب من كان يدع القصيدة عنده حولا كريتاً وزمناً طويلا , يردد فيها نظره ويجيل فيها عقله , ويقلب فيها رأيه ,اتهاماً لعقله , وتتبعاً على نفسه , فيجعل عقله زماماً على رأيه ,ورأيه عياراً على شعره , إشفاقاً على أدبه ….وكانوا يسمون هذه القصائد : الحوليات والمقلّدات والمنقحات والمحكمات ليصير قائلها شاعراً فحلاً خنذيذاً وشاعراً مفلقا


ومن الجاحظ إلى ابن جني -بالمناسبة الجاحظ شخصية حقيقية وليس وهماً أو ما شابه, وابن جني ابوه إنسي وليس جنياً على التحقيق- , يقول ابن جني في الخصائص ” ليس جميع الشعر القديم مرتجلاً , بل قد كان يعرض لهم فيه من الصبر عليه والملاطفة له والتلوم على رياضته , وإحكام صنعته نحو مما يعرض لكثير من المولدين , الا ترى إلى مايروى عن زهير , من أنه عمل سبع قصائد في سبع سنين ؟ “


ونكتفي بأربعة أبيات لكعب بن زهير يقول فيها :


فمن للقوافي (شانها من يحوكها )  إذا ما ثوى كعب وفوّز جرول


يقول فلا يعيا بشئ يقوله             ومن قائليها من يسئ ويعمل


نقوّمها حتى تقوم متونها               فيقصر عنها كل ما يتمثّلُ


كفيتك, لا نلقى من الناس واحداً        تنخّل منها مثل ما نتنخّلُ


وحتى إن ذهبنا غرباً ناحية فرنسا أو( فرانسا ) حسب بعض أبناء جلدتنا , لوجدنا خنذيذهم لامارتين يدّعي أن أعظم قصائده نزّلت عليه تنزيلاً , وبعد أن هلك, وجدوا بين أوراقه مسودات لنفس القصيدة وفيها شطب وتعديل وتقويم أكثر من وجه مغنية أعيت المنجمين في تحديد موعد وفاتها . فأي تنزيل يدّعي ؟!.وقريبا من هذا فعل الفتى الدمشقي ؛ وتكفي نظرة إلى مسوداته والخربشات فيها حتى نظن أنها الورقة التي خطّت عليها خطة إنزال الحلفاء في النورماندي.


لا أهوّن فيما سبق وأنقص من قدر الإرتجال , فللإرتجال رجال , وله ساعته التي لامحيص عنها . لكنه شرارة لا تغني عن الجلوس والتفكير والعمل , العمل , العمل. وتظل هذه الأمور يؤخذ منها ويرد وبين الأقلال والإفراط ماقال القصيبي-الكبير- في أقواله غير المأثورة : قدر الشعراء ؛ بين الأمساك الشديد والإسهال الشديد.