كتاب سبر

سِيركُنا وسِيركُهُم

تواجه فرقة سيرك فرنسية شهيرة -لا يحضرني اسمها- معارضة شديدة من قِبل مجموعات اجتماعية تنظم المسيرات والاحتجاجات ضدها، وتحاول إقناع الناس بعدم حضور عروضها وفعالياتها، وإذا عُرِف السبب بطُل العجب، فكل ما في الأمر أن هذه الفرقة متهمة بالتهرب من دفع الضرائب المفروضه عليها، حسب ما شاهدت على قناة العربية.


والواضح، أن هذه الفرقة استخدمت القوانين المتاحة لها، من أجل تخفيف نسبة الضرائب -عن طريق نقل أعمالها إلى دولة أوروبية أخرى- وهي ضرائب فاحشة وكبيرة بطبيعة الحال، ومع ذلك فالمجتمع لم يغفر للفرقة هذا التملص من الواجب الأخلاقي في دعم الوطن.


فهكذا تتعامل المجتمعات مع المتهرب الضريبي في الغرب ، لأنها تنظر إليه بعين الساخط على من يسرق من خزينة بلاده، والتي لكل مواطن، حصة منها وفيها، والواضح أن هذا التعامل يتم لدينا بشكل مختلف كليا.. كيف؟


نحن نخلط مسألة اختلاس مُقدرات البلاد، وسرقة أموال الدولة، بالشطارة والذكاء والمساومات المبررة بأعذار نحن من يختلقها، فكُلُ لِص يخرج من الحكومة، أو مُرتش يغادر المجلس، وهو يمتلك الملايين المشبوهة، نُحاوِل التودُد إليه، ونُكِن لهُ الاحترام، ونُنزِلُه منزِلة الإعجاب والتقدير، والحسد في أحيان كثيرة، ولا أحد منا يُدينه، أو ينتقده، أو يجرُؤ على التلميح له، بينما نُدين الشخص الذي خرج من الحكومة أو المجلس، بـ (خُفي حُنين) ، ونعتبِرُه جباناً وأهبل وعبيط… وما يعرف، لحمة الكتف من وين توكل !


نعم هذه ثقافتُنا بطبيعة الحال، فالفاسد يجد نفسه محاطاً بعدد كبير من المعجبين من أقاربه ومن حولهم، وإذا تعرض -لا سمح الله- إلى مساءلة، أو انتقاد، أو تلميح، يلتف الناسُ مِن حولِه متظاهرين مُندِدين دعماً له على قاعدة (أنصر أخاك ظالماً ومظلوماً) .. وهذا أسوأ أنواع الاعتداءات على المجتمع المدني المثالي الذي ندعي السعي للوصول إليه.


وبعبارة أخرى، فسادُنا بالإضافة إلى ما يحظى به من رعاية حكومية سامية، مدعوم شعبياً وتحت رعاية مجاميع الأقرباء والأصدقاء والمتنفعين من المرتزقه والأبواق…. لِذلك تفشل كافة محاولات محاربة الفساد، ونعود في كل مرة، إلى نقطة الصفر التي يدونها مايسترو سِيرك الفساد، ومهرجوه، وكومبارسات الفرقة الخاصة به، فكل محاولاتنا وما نقوم به من شجب ومظاهرات وتنديدات ضد قضايا الفساد، كـ قضية الرشاوى المليونية الأخيرة على سبيل المثال لا الحصر، ينقصها مع الأسف الشديد، الابتداء بـ الثورة ضد الثقافة السائدة، والتمرد على نمط التفكير، ومعصية القرارات التي تفرضها البيئه، والتخلص مِن خِشية رد الفعل، حتى يتسنى لنا التحرر من عقدة (الفاسد شاطر) و (أربح وأنبطح لـ ناصر).


                                                           ********


على أقل تقدير، فقد عَللت فرقة السيرك الفرنسية، تملصها عن سداد الضرائب المفروضة عليها، والتي هي بمثابة سرقة المال العام (هناك) ، بحق استخدام ما لها من قوانين متاحة تخولها لذلك، بخلاف فرقة سيرك الرشاوى النيابية، والتي تُكابر وتُداعر وتُجاهر، بادعاء التنزه عن سرقة المال العام، وقبض الرشاوى من قِبل القائم على تنفيذ القانون، كرمال تمرير أو عرقلة بعض القوانين (هنا)، فـ مقارنة الحال ما بين (هنا) و (هناك) ، تتطلب مفارقات أخلاقية لا مفارقات قانونية كما يبدو لي!


أضف إلى ذلك مفارقة مخاوف المفسدين، ومراعاة دواعي الخوف (هنا) و (هناك) ، فـفي البُلدان (الديموقراطية) يخاف المسؤول القوانين، وفي الدُول (الديكتاتورية) يخشى المسؤولون الحكومات، وأما في دُول (اسمحلي) والتي ننتمي إليها نحن، وهؤلاء ومن على شاكِلاتِهم، فالمسؤول لا يخشى القوانين ولا تُخيفه الحكومات، فـ يَعيثُ فساداً في مناخ مناسب، وبيئه مُهيأه، لا حدود لسقف فسادها، وبعقدٍ عُرفي، وشهود مطيرجية، حسب مقتضى أحكام الدساتير الفخرية.