في إحدى دول العالم المتقدم، اشتكى سكّان إحدى البنايات الشاهقة التي تعانق الغيم وتلثم خدّ السماء من تأخر المصعد الكهربائي الذي يستعملونه للصعود والنزول، وتعالت أصواتهم مطالبين أصحاب القرار في تلك البناية أن يجدوا حلّا سريعا لمشكلتهم، وبما أن الحل مكلف من وجهة نظر أصحاب القرار فقد فكروا وفكروا وفكروا، في كيفية إشغال النزلاء وتحويل أنظارهم عن تلك المشكلة، فقام أحد المهندسين في تلك البناية الذي يبدو أنه من النوع الذي يغار منه إبليس!! بوضع مرايا كبيرة في داخل المصعد وبجانب المصعد وفي كل دور من أدوار البناية، وبالفعل نجحت الخطة، وخفتت أصوات الشاكين، ونسي القوم حكاية التأخير الذي سرق منهم أوقاتهم وتسبب في تعطيل أعمالهم، وأخذ النزلاء أثناء انتظارهم الطويل للمصعد ينشغلون في النظر إلى المرآة ومحاولة تعديل مظهرهم الخارجي، وترتيب هندامهم، ولاسيما السيدات منهم واللاتي لا يمانعن في الوقوف أمام المرآة لساعات طوال.
وأنا أقرأ تلك الحكاية تذكرت بعض الحكومات التي تنتهج نفس الأسلوب تقريبا، ولكن بصورة مغايرة، فالحكومات العربية تحاول أن تلفت أنظار الشعوب عن القضايا المهمة، وعن كشف عوار السلطة، وإزاحة الستار عن وجهها الحقيقي القبيح الذي لا يختلف كثيرا عن وجه تلك العجوز التي ذهبت إلى العطار ترجو شبابها متناسية أن العطار لا يصلح ما أفسده الدهر، وذلك عن طريق إشغالها بأمور أخرى قد لا تكون مهمة أصلا، أو قد تكون أقل أهمية من القضايا الأساسية المصيرية.
بعض الحكومات تلجأ من أجل إشغال الشعوب إلى تجويعها وجعلها تنهمك في طلب لقمة يسدون بها جوعهم وجوع أبنائهم، وعما يسترون به عورات بناتهم، مما يجعلهم في شغل عن متابعة فساد السلطة، وفي شغل عن المطالبة بالحقوق تزامنا مع أدائهم للواجبات، ولهذا بتنا نسمع بعض الشعارات التي تصدر من بعض الحكومات من نوعية “جوّع كلبك يتبعك “!!، وقد فهم هذه الجزئية دول العالم المتحضر وأنها الطريقة التي يتبعها الطغاة والديكتاتوريون ليحكموا قبضتهم على السلطة، وليمارسوا هوايتهم المفضلة في “الدوس” في بطون الشعوب، حتى قال روزفلت: “إن الفقر والبطالة هما الركائز الأساسية التي تُبنى عليها الأنظمة الديكتاتورية”، والبعض الآخر يحاول إشغال الشعوب عن طريق إثارة الفتن والقلاقل بين أبناء الشعب الواحد مما يؤدي إلى تفرقهم وتشرذمهم وتقسيمهم إلى فئات من نوعية حضري وبدوي وسني وشيعي وأصلي ومجنّس وغيرها من تقسيمات ما أنزل الله بها من سلطان، فيصبحون في شغل عن متابعة فساد السلطة، وبدلا من أن يسلوا سيوفهم في وجوه الفاسدين والقبيضة والمرتشين، تجدهم يسلون سيوفهم في وجوه بعضهم البعض ويصوب كلّ منهم سلاحه نحو الآخر لعله يصيبه في مقتل ، وتختفي قوانين الخلاف الذي لا يفسد للود قضية ويصبح طل خلاف مدمرا للود وقاتلا للمحبة والألفة ، وتصبح الأسلحة المحرمة “أخلاقيا” جزءا مهما من اللعبة، ويصبح الضرب تحت الحزام حنكة ، وهذه الجزئية ليست ببعيدة عنّا .
بذلك يتبين لنا أن الشعوب متى ما كانت تعي مكمن الخلل، وتنظر إليه متناسية ما سواه، فإنها ستصل للعلاج إن عاجلاً أم آجلاً، ومتى ما استطاعت السلطة تشتيت نظر الشعوب بسفاسف الأمور، وإلهائها بالدون، انتشرت بين أوساط الشعوب عبارات ” كثّر الله خير ابن فلان “، ” وإذا صب لك فلان مرق افرش له شليلك” ، “واليد اللي ماتقدر تقطعها بوسها” ، و” وإذا لك حاجة عند الكلب قوله ياعمّي ” ، وغيرها من عبارات الخنوع التي تنبئ عن شخصية لا تعرف ولا تعي معنى المواطنة ومالها من حقوق وما عليها من واجبات ، وتظن أن ما تحصل عليه من حقوق هي من باب المنح التي تصرف من جيوب أصحاب السلطة، ما كانوا ليحصلوا عليها لولا وجود فلان وفلان، ويرفعوا أكف الضراعة للمولى سبحانه مرددين “الله لا يغيّر علينا”.
أضف تعليق