كتاب سبر

شاكر عبد الحميد.. العملاق الذي تعملق

“ليس من موهبة عظيمة دون إرادة عظيمة”… وليس من إرادة عظيمة دون نفس خلقت لتكون كذلك… قبل فترة كان أحد الأصدقاء يقرأ لأنيس منصور، فأيقظ فطنته تساؤل منصور “من هذا العملاق البديع وكيف تعملق؟!” ليسألني بدوره نفس السؤال، فقلت وأنا أُومئ بيدي: هذا وأنت لم تقرأ ما كتب؟ ولم تسمع ما حكى؟ ولم ترَ كيف يطرق الكبار في حضرته وجلاً أن يخدش الذي تحت ذؤَاباتهم!!، فالعلماء يا صاحبي كدهماء الناس معادن، والمعدن النفيس لا يخدشه إلا معدن أنفس منه!! ثم أرشدته إلى بعض كتبه وقلت له اقرأ واتعظ.
شاكر عبد الحميد عملاق صنعه الله على عينه، ثم أرسله في نوء رعايته.. ولد وفي يده خريطة الإبداع، فسلك طريقه المراوغ، ومشى بين أهواله، وسَبَرَ أحواله، وصافح معالمه، وشق وديانه، وكتب ذكراه هنالك.. وفي الوقت الذي كان مثقفو البلاط، وبعض حملة الشهادات العليا، مشغولين بعبادة ما ينحتون، حمل هو مزودته على كتفه؛ ليكمل سيره – في طريق الإبداع – وحيداً بعيداً عن الأهل، والأصحاب، والمعينين، فعارك حَزَنَه، وداعب سهولته، وشدّ على وعثائه شدّة الليث، ثم حط في مدينته، وأُلبس تاجه.
لم يقفز إلى الواجهة بعصا السلطة، ولم يعرفه الباحثون عن طريق وراثةٍ تقدم لنا الحصرم على أنه زبيب.. هو تعملق كما يتعملق كل عظيم بين الكتب وداخل المختبرات، بعيداً عن الأضواء والضوضاء، فالعظيم كل عظيم له درسان يحفظهما.. أولهما أن الأضواء لا تصنع عظيماً إنما تصنع فقاعة، وثانيهما أن الضوضاء لا تكشف جمال هذه العظمة وإنما تطمسه، وبين تلك العتمة، وذلك السكون تشكلت لوحة فنية، أخذت كفلها من جمال كليوبترا، وشموخ “أبو الهول”، وحلاوة النيل، وحكمة فان تحوت، وذكاء المصريين، ثم طوفت في العالم كله على هيئة محاضرات وكتب عن الإبداع، والخيال، والجمال، وعن المسرح، والسينما، والقصة، والرواية، تارة يتناولها كعالم النفس الذي يفسر السلوك، وتارة كالناقد الذي يفسر الأدب، وأخيراً جنح إلى الجمع بين الأسلوبين، وهو أساساً مهتم بجمع شمل العلوم وتذكيرها بأصلها وفصلها، ثم حملها على جمل واحد، ماراً بها على الباحث المتكثر، والقانع والمعتر، فهو دائمًا يؤكد على أن الظواهر الإنسانية لا تسفر عن وجهها المذهل إلا بالنظر إليها على أنها محصلة تقاطع حقول عديدة.
له آراؤه الخاصة التي تفرد بها كما يتفرد الهائم بخيال محبوبته لتجيء كما يحبها العاشقون الصادقون.. ذو نظرة واسعة لا تستغرقه الجزئيات ولا يغرق فيها، فالتفاصيل لا يكمن فيها الشياطين فحسب، ولكن العابثون أحياناً.
كتب كثيراً وتغرب كثيراً، وموسوعته التي تلقاها الناس بدهشة عن الغرابة، مفسراً إياها على “أنها كل شيء كان ينبغي أن يظل خفياً، وسرياً، لكنه علي الرغم من ذلك يتكشف ويتجلى” كأنه كتبها لتدلنا على نفسه، أو تجيب عن ذلك السؤال “من هذا العملاق وكيف تعملق ؟!”.
ولو رأيته، وهو جالس والطلاب حوله جلسة المتخشع، المتشبع بما أعطي، صامتاً كأن وحيا يطوف في أثيره، ثم يرفع رأسه وينثر العلم على الطاولة، لنجمعه نحن متلألأ مشرقًا كأنه الدر.. لو رأيته لو رأيته!!!
هذا بعض من شاكر، هذا بعض من العملاق الذي تعملق.
زيد الفالح
zalfaleh@Twitter
Zaid_alfaleh@hotmail.com