كتاب سبر

أعذب الشعر أكذبه!!!

هناك مقولة تردد كثيرًا في الأوساط الأدبية، وهي مقولة “أعذب الشعر أكذبه” فما مدى مصداقية هذه المقولة؟؟!!، وهل فعلاً أن الكذب الذي أخبر عنه الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار يكون عذبًا في وقت ما؟؟؟!!!
الحقيقة، إن هذه المقولة كغيرها من المقولات العامة التي تستخذم تارة استخدامًا سليمًا، وتارة سيئا لسعة مدلولها وعدم توضيح المراد من هذه المقولة!!!
في البداية، لابد أن يستقر في أذهاننا دون أدنى شك أن الكذب مذمومًا على الإطلاق ويستباح منه ما أباحه الشرع للمصلحة الراجحة التي لا يتوصل إليها إلا عن طريق الكذب؛ كالحرب والإصلاح بين رجلين وغيرها من الأمور.
اذا استقر هذا، فلنعلم أن المقصود من مقولة أعذب الشعر أكذبه هو استخدام فنون البلاغة من استعارات والبيان والبديع وغيرها، وليس هو الكذب الذي يعرف بأنه أخبار بخلاف الواقع، كما قال ذلك الرجل لأبي تمام متهكمًا على بيته:
                                             لا تسقني ماء الملام فإنني …. صب قد استعذبت ماء بكائي!!
أرني ماءَ المَلام في قولك: لا تسقني …إلخ
فرد عليه أبو تمام: لا بأس على أن تأتني بريشة من جناح الذل، إشارة إلى الآية الكريمة: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا).
فإن هذا الكلام لا يعد كذبًا، فهو من صميم لغة العرب، فالعرب تستخدم المبالغات التي تضفي على الكلام أغراضا معينة من تهويل أو تحسين أو تقبيح أو غيرها، وأما الكذب فلم تستحسنه العرب قط، بل كانت تأنف منه وتترفع عنه، وانظر إلى قول حسان بن ثابت رضي الله عنه – وهو من سادات العرب وشعرائها المقدمين- كيف قال:
                                             وإن اشعر بيت أنت قائله ….. بيت يقال إذا أنشدته صدقًا
فهذا دليل على استقرار فضيلة الصدق في الشعر عند العرب ،واما الكذب الصريح فلا يضفي على الشعر مسحة من الجمال بل على العكس يضفي على قائله الخزي والندامة ويحشره في زمرة الذين ذكرهم الله في قوله تعالى (والشعراء يتبعهم الغاوون الم تر انهم في كل واد يهيمون وانهم يقولون ما لا يفعلون ….الاية).
يقول العلامة السعدي:
{ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ } أي: هذا وصف الشعراء، أنهم تخالف أقوالهم أفعالهم، فإذا سمعت الشاعر يتغزل بالغزل الرقيق، قلت: هذا أشد الناس غراما، وقلبه فارغ من ذاك، وإذا سمعته يمدح أو يذم، قلت: هذا صدق، وهو كذب، وتارة يتمدح بأفعال لم يفعلها، وتروك لم يتركها، وكرم لم يحم حول ساحته، وشجاعة يعلو بها على الفرسان، وتراه أجبن من كل جبان، هذا وصفهم.انتهى.
فهذا هو الفرق بين الكذب ،وبين التجول في فضاءات اللغة!!!
 
أبو الجوهرة
عبدالكريم دوخي المنيعي
تويتر:a_do5y