كتاب سبر

فيها إنّ

 بعيداً عن السياسة قريباً من التراث، آثرت التفكير في الكتابه حول مفاتيح الكلام وبعض المصطلحات الشعبيه الشائعه، والتي كثيراً ما نستخدمها دون أن نكلف أدمغتنا عناء التفكير في مصدرها ومكان نشأتها، فاستقر بي المقام عند عبارة (فيها إنّ) والتي توحي إليك، بأنك على علم بأمور خطيرة تجعلك (تشكك) بكل ما هو معروف ودارج وطبيعي !


تُجمِعُ العديد من الروايات التاريخية على أن مصدر عِبارة (فيها إنّ) يعود إلى مدينة حلب السورية، وتقول الحكاية : إنه عندما هرب رجل إسمُهُ علي بن منقذ من المدينة خِشية أن يبطش به أميرها المدعو محمود بن مرداس لخلاف دار بينهما، أوعز الأمير إلى كاتبه أن يكتب إلى ابن منقذ رسالة يطمئنه خلالها ويستدعيه للعوده إلى حلب، غير أن الكاتب قد شعر بأن الأمير يضمر الشر وينوي الغدر بـ (ابن منقذ) فكتب له رسالة عادية جداً، ولكنه ذيلها بعبارة (( إنّ شاء الله تعالى )) بتشديد النون، فأدرك ابن منقذ أن الكاتب يحذره وينبهه من غدر الأمير حينما شدد حرف النون، مستذكراً قول المولى عز وجل : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ) ، فقام بالرد على رسالة الأمير برسالة تقليديه يشكر بها أفضال الأمير ويطمئنه على ثقته الشديدة به، وذيلها بعبارة : (( إنّا الخادم المقر بالأنعام )) ، فـ فطن الكاتب إلى أن ابن منقذ يطلب منه التنبه إلى قوله تعالى : (إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا) ، فعلم الكاتب أن ابن منقذ لن يعود إلى حلب في ظل وجود أميرها محمود بن مرداس .. ومنذ ذلك الحين، أصبح إستعمال (إنَّ) المشددة، دلالة على الشك وسوء النية !


الغريب في هذا الأمر، هو أنني ما إن أنتهيت من صياغة هذا المقال، حتى بدأت أشعر أن كل شئ لدينا فيه (إنّ) ، حتى أن الوضع الذي أوصلني إلى أن أعتقد أن كل شيء فيه إنّ .. هذا الوضع أيضاً فيه إنّ، فابن منقذ أنقذته نباهته مستشعراً الخطر لمجرد وجود النون المشدده، فهل في البلاد منقذ يفطن للخطر الداخلي ويستشعر الخطر الخارجي في ظل وجود عِدة أمور (فيها إنّ) ؟