كتاب سبر

مع حمد .. ألم

قبل ستّ سنوات بالتحديد اتّخذ “حمد” القرار الأصعب في حياته ، حين قرّر أن يهاجر تاركاً وطنه الذي يحبه والذي عاش وترعرع فيه ، وطنه الذي لطالما ردّد نشيده في طابور الصباح ، وطنه الذي لطالما تفاخر بحبه ، وطنه الذي لطالما رسم الأحلام على أرضه ، وطنه الذي لطالما تمنى أن يكبر كي يرد له الجميل الذي أسداه إليه صغيراً ، وطنه الذي حمل والده السلاح من أجل الدفاع عنه في أول أيام الغزو الغاشم ، ومن أجل تحريره مع قوات التحالف ، وطنه الذي بكى حزنا إثر اغتصابه ، وبكى فرحاً بعد تحريره ، وطنه الوحيد الذي لا يعرف غيره وإن حاول المغرضون أن ينسبوه لغيره .


هاجر “حمد” مكرهاً لأنه صدم بوطن رعاه صغيراً وجحده كبيراً ، صدم لأنه اكتشف أن وطنه ينظر إليه على أنه ابن غير شرعي له ، وطن حرم فيه من أبسط حقوقه ، وطن ينسى سريعاً كل التضحيات والعطاءات التي قدمت له ، هاجر حمد ليبحث له عن وطن جديد ، بالتأكيد هو لم يهاجر ليبحث عن وطن يحبه ويشعر بالولاء تجاهه لأنه لم يكن يفتقد هذا الشيء أصلاً ، فهو وإن هاجر فإنه يحمل وطنه في فؤاده يستشعر دفئه ويتلذذ بمناجاته والكتابة عنه وله ، و يشدو بحبه شعراً ونثراً ، لكنه هاجر ليبحث عن وطن يجد فيه قوت يومه ، وطن يعطيه بقدر ما يأخذ منه ، وطن يحتضن أحلامه البسيطة التي تتمثل في بيت وزوجة وأطفال ووظيفة محترمة ليصيرها واقعاً بعد أن كانت سراباً ، وطن ينظر إلى إنسانيته ويحترمها ، وطن لا يقيده بقيود وهمية دافعها الحسد والكراهية .


في غربته لم ينس “حمد” وطنه الذي يحبه ، فقد كان يشتم رائحة ترابه مع كل قادمٍ منه إليه ، وكان يستنشق هواءه مع كل مكالمة هاتفية مع أصدقائه وأقاربه ، وكان يتحسس أخباره عبر برامج التواصل الاجتماعي ، يتألم لألمه و يفرح لفرحه ، يشعر بقربه منه كلما ذكروا اسمه أمامه ، ويشعر بأنه أبعد ما يكون كلما تذكر المسافة البعيدة التي تفصله عنه ، كان ولا زال يطرب لجهرائه ويحن لتيمائه ، يتذكر كل لحظات الفرح التي عاشها هنا ، يحاول أن يستحضرها لحظة تلو لحظة ، متناسياً الكم الهائل من الأحزان الذي ارتبط بها .


“حمد” وبعد أيام قلائل سيعود إلى وطنه ، سيقبل ترابه ، سيستنشق هواءه ، سيناجي أمواج خليجه ، سيعود لا ليستقرّ فليس له هنا مستقرّ ، سيعود على حصانه الأبيض المنهك ، الذي بالكاد يقوى على الحراك ، ليختطف فتاة مثقلة بالهموم مثله ، كانت تمني النفس بالأفضل أيضاً ، يختطفها من جحيم الفقر والعوز والاحتقار ، إلى جحيم الغربة ليحاولا معاً أن يصيراه جنة أحلامهما .


“حمد” عرفته شابّاً محبّا لوطنه ولا زال ، “حمد” الذي كان لا يكف عن إرسال رسالة لي كل مساء يقول لي فيها “تصبح على وطن” ، لا تحزن يا “حمد”  فالكثيرون هنا هم “حمد” بشحمه ولحمه ، يعانون كما عانيت ويقاسون كما قاسيت وينتظرون لحظة فرج أو لحظة اتخاذ قرار مشابه لما اتخذته ، عدت يا “حمد” والعود “حمد” ، عدت لتقول لنا بصوت مبحوح : أخبرونا في المدرسة أن مع حمد قلم … لكنهم لم يخبرونا أن مع “حمد” ألم .