آراؤهم

زلزال الكراهية

قلوب بني البشر تتشكل على حسب الظروف التي يمر بها الإنسان الذي يحملها فالمشاعر تتغير بتغيّر الظروف وتبدلها فالزمن كفيل بكشف الأغطية التي تغلف مشاعرنا تجاه الآخرين ، العجيب في الأمر هو :هل فعلا يستطيع الإنسان أن يكرهه والديه وزوجته وأبناءه واخوته وأقرب أصدقائه؟! في ظنكم هل هناك قلب كان يحب فتحول الحب إلى كراهية ،هل من الممكن أن تنقلب مشاعر الحب والعشق والود والتآلف والتراحم إلى مشاعر الجفاء والقسوة والفرقة ؟! .
الحب في حياتنا في الغالب يأتي من صلة التقارب اليومي فيما بيننا ،أتحدث هنا عن الحب الطبيعي لا عن عشق فلان فلانة أو هيام علانة بعلان أتحدث عن حب الأب لأبنائه، الزوج لزوجته، والقريب لقريبه، يقال ان هذا الحب ناشئ عن صلة القرابة والدم وأنك تحب أباك لأنك من صلبه وتحب ابنك لأنه من صلبك وتحب قريبك لأنكما من صلب واحد ، ولو كان هذا الصُلب في زمن داحس والغبراء فأنت تحبه لأنه ابن قبيلتك أو عائلتك ولذلك حبك اياه يسري بالدم كما يقولون.
 
هل فعلا نحن نحب آباءنا وأمهاتنا وهل نحب أبناءنا لأنهم من أصلابنا أم لأنهم قريبون منا ومن شخصياتنا ، لو كان هذا الأمر صحيحا فلماذا هناك عقوق للوالدين وطلاق لبنت العم ولماذا يتبرأ الرجل من ولده أو تطرد الأم ابنتها هل فعلا نحن نحبهم لأننا أحببناهم أم لأنهم فرضوا علينا! وما نحسبه حبا إنما هو عطف من كبير على صغير أو من شاب على شيخ مسن كبير ومن غني على فقير ومن صاحب سلطة على من لا سلطة له ، هل يعقل أن محبتنا لهؤلاء مفروضة علينا دون أن نشعر بها ؟
 
هل الأم التي تقول بأنها تحب أبناءها وتعطيهم كل ما يشتهون بدعوى عدم الإحساس بالنقص هو حب أو ذلك الأب الذي يقسو على أولاده لأنه يحبهم ويريد ان يخرجهم رجال أسوياء عن طريق حرمانهم من طفولتهم ويعتبر ذلك حبا ، وهل الزوجة التي تشارك زوجها في أزماته ثم تمن عليه عند غضبها وتقول انها ما قالت ذلك إلا بدافع الحب ،هل الحب شعور نحس به دون أن يصدقه عمل نقوم به ؟ ما الذي يفرّق بين الحب والود والعشرة ؟ الفعل من يحب مستعد أن يخسر كل ما لديه في سبيل ارضاء محبوبه ولنا في قصص العشاق براهين كثيرة فهذا ابن زيدون هام عشقا بولادة بنت المستكفي فكان يخطب ودها في كل مناسبة حدث أو اخترعها لدرجة أنه من فرط حبه لها أقدم على أن يفرق بينها وبين ابن عبدوس ثم برهن حبه لها بقصيدة كتبها بمداد عشقه وحروف حبه وسطرها بدم قلبه فخلدها له الدهر وتغنت بها الركبان فقال :
 
أَضـحـى الـتَـنائي بَـديـلاً مِــن تَـدانينا// وَنـــابَ عَـــن طـيـبِ لُـقـيانا تَـجـافينا
أَلّا وَقَــد حــانَ صُـبـحُ الـبَينِ صَـبَّحَنا// حَــيــنٌ فَــقـامَ بِــنـا لِـلـحَـينِ نـاعـيـنا
مَـــن مُـبـلِـغُ الـمُـلـبِسيا بِـاِنـتِزاحِهِمُ// حُـزنـاً مَــعَ الـدَهـرِ لا يَـبـلى وَيُـبـلينا
 
أَنَّ الـزَمـانَ الَّــذي مــازالَ يُـضحِكُنا // أُنــســاً بِـقُـربِـهِـمُ قَـــد عـــادَ يُـبـكـينا
غيظَ العِدا مِن تَساقينا الهَوى فَدَعَوا// بِـــأَن نَــغَـصَّ فَــقـالَ الــدَهـرُ آمـيـنـا
 
هذه بعض أبيات القصيدة هل أحسست أن أوتار قلوبكم تحركت مع حروفها لترسم في مخيلة كل واحد منكم صورة شخص يحبه ، هل شعرت بلوعته عندما صار الزمان الذي كان يضحكه زمانا يبكيه والزمان هو الزمان ومن تغير هو ابن زيدون هذا هو الحب الحقيقي الذي يرى في ارضاء محبوبه هدفا له وغايه.
 
وهل تأملتم في ابن زريق البغدادي الذي هاجر من فرط حبه لزوجته ليكفل لها ولأولاده حياة كريمة وكان له زوجة يحبها حبا جما وتحبه حبا جما غير أنه كان له مال وفير اكتسبه ثم أضاعه ذلك أنه على حذقه للشعر وباعه فيه إلا أنه لم يكن ذا مهارة تكفيه أن يحفظ المال فضلا عن أن يثريه ولهذا كانت زوجته لا تضيع فرصة يمكن فيها أن تلومه على ضياع هذا المال إلا انقضت عليه ونشبت أظفار اللوم في وجهه وقلبه لتنهش فيها ولم تكن تدخر جهدها ولا وسعها أن تذكره بهذه الحادثة كلما اختلفا أو تعاركا فتعيره بتضييع قوت العيال وذهاب المال كما جاء وأخذت على هذه الحال سنوات حتى ضاق به ذرعا وقرر –على حبه لها- أن يهجر البلد والوطن ويسعى في الأرض ضاربا لعله يعوض خسارته الفادحة فلا تلومه زوجته على ضياع المال مرة ثانية. فشد الرحال إلى الأندلس كما تحكي الرواية لأنه سمع أن خلفاءها يجزلون العطايا للشعراء فقصدها من بغداد وقطع القفار والفيافي ووقوده هو حبه لزوجته وعندما وصل وقال ما عنده لم ينل ما أراده فكتب قصيدة رائعة وقيل انها وجدت تحت وسادته في الخان وكان ميتا من فرط قهره وفيها لم ينس زوجته لأنه يحبها والمحب يكثر من ذكر حبيبه في عقله وقلبه ولسانه فقال في قصيدته الرائعة الراقية:
 
لا تعذليــه فإن العـذل يولعـــه ،،، قد قلت حقا ولكن ليس يسمعــه
 
جاوزت في لومـه حدا أضــر به ،،، من حيث قدرت أن اللوم ينفعــه
 
فاستعملـي الرفـق في تأنيبـه بدلا ،،، من لومه فهو مضنى القلب موجعه
 
يكفيـه من لوعـة الـتأنيب أن له ،،، من النوى كل يوم ما يروعـــه
 
إلى أن يقول
 
أستودع الله في بغداد لي قمراً ،،، بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
 
ودعتـه وبودي لو يودعنــــي ،،، صفو الحياة وإني لا أودعــــه
 
وكم تشبث بي خوف الفراق ضحى ،،، وأدمعي مستــهلات وأدمعـــه
 
لا أكذب الله ثوب الصبر منخـرق ،،، عنـي بفرقتـه لكـن أرقعـــه
 
ما كنت أحسب أن الدهر يفجعنـي ،،، به ولا أن بي الأيــام تفجعــه
 
حتى جرى البين فيما بيننا بــيد ،،، عســراء تمنعني حظي وتمنـعـه
 
عل الليالي التي أضنـت بفرقتـه ،،، جسـمي ستجمعني يوما وتجـمعه
 
وإن تغـل أحـدا منـا منيتـــه ،،، فـما الذي بقضـاء الله نصـنعــه
 
بالله عليكم هل قرأتم أجمل من هذه القصة يحبها لأنها آذته وعيرته بذنب ارتكبه هل تتوقعون أنه كان سيحبها هذا الحب لو لم يجد في قلبه لها فسحة من الرضا والقبول ، بالله عليكن يا معشر القارئات ألا تتمنى احداكن أن يحبها زوجها أو أبوها وحتى أخوها كما أحب ابن زريق زوجته أو ابن زيدون حبيبته هل تظنون أنهم أحبوهم هكذا دون تضحيات ما بال مجتمعنا اليوم صار يريد حبيبا على هواه يشكله كما يريد دون أن يضحي ولو بالقليل من أجل حبيبه.
 
صححوا أخطاءكم مع من تحبون قبل أن يدهمكم زالزال من الكراهية يصدع القلوب فلا تلتئم وإن التصقت بان أثر الزلزال فيها لا تعتقدوا أن الحب هو في العطاء والرومانسية فقط بل الحب في الصبر والهيام في التحمل والعشق في البذل من أجل المحبوب قد تختلف طبائع الابن عن أبيه ويكون الزوج من بيئه والزوجة من بيئة أخرى لكن ما أعرفه أن من يحب سوف يصنع المستحيل ليكسب رضا محبوبه ، وحذارِ ثم حذار أيها المحبون بالفطرة أن تركنوا إلى هذا الحب فمثل هذا الحب ضعيف أساسه سهل تكسيره فيا ليتنا نزيد على الحب الفطري حب فعلي فيه عطاء وتضحية ورومانسية وتكون أيامه جميلة حتى وإن كانت سوداء فمن يحب يشعر بالسعادة مع محبوبه وإن كان في السجن أم في كوخ من القصب أو حتى في خيمة وسط الصحراء.
 
ما نعاني منه اليوم هو الحب المادي الذي يحاول اقتناصه الكثيرون فالزوجة تريد أن ترى حب زوجها لها بما يقدمه لها من هدايا والزوج يريد أن يرى حب زوجته له بشكلها وجسمها ومكياجها والأب يعتقد أن حب ابنه له أن يكون كما يريد والإبن يرى أن حب أبيه له بمقدار المال الذي يوفره له ويعطيه ولو تأملنا في الكلمات الماضية لوجدنا أن حب هذا العصر وللأسف هو حب أناني مصلحي يرى المحب فيه مصلحة نفسه من خلال محبوبه.
 
سردت عواطفي سردا دون ترتيب فلا تحاسبوني عليها فقد أحسست أنني أريد أن أكتب بحرية وأريحية ولا يعتقد القارئ بأنني كتبته من تجربة شخصية لا ليست تجربة شخصية ولكنها لحظات تأمل في المجتمع ونسب الطلاق والعقوق فكانت هذه الكلمات.