كتاب سبر

جرافيتي ضد العسكر

لن يستطيع المجلس العسكري أن يقتلع الثورة من أرواح المصريين مهما فعل، مهما حاول أن يشوه صورتهم أو صورة ميدان التحرير، لأن الثورة قالت كلمتها، وتجذرت في حياة المصريين، وفي كل تصرفاتهم.
من يسير في شوارع القاهرة، سيجد الجرافيتي المنتشر في كل مكان يحكي قصة الثورة، وكيف سرق العسكر والإخوان حلم المصريين، مئات الرسومات تحكي ما حدث، وبدأت مؤخرا بعض الكتب في تدوينها والتأريخ لها.
في زيارتي الأخيرة إلى ألمانيا وجدت الجرافيتي أيضا يحكي قصة ما حدث هناك، هذا الفن منتشر فى جميع الدول الديمقراطية، ولا يمكن أن تمر في شارع في العاصمة الألمانية برلين إلا وتجد رسما أو كتابة على الجدران، لا فقط على بقايا سور برلين الذى كان يفصل الجزء الغربى عن الجزء الشرقى بعد الحرب العالمية. وقد أقام العسكر عندنا أسوارا ليحاصروا الشوارع المحيطة بمجلس الوزراء ومجلس الشعب ووزارة الداخلية كأنه يعيد مسيرة سور برلين الذى تحطم.
 ولأن المجتمع الألماني مجتمع ديمقراطي ويعلى من شأن الحرية.. فقد حافظ على هذا الجرافيتي على الجدران والأسوار.. ووصل الأمر إلى احتفاظهم بذلك الجرافيتي من الرسوم والكلمات على جدران البوند ستاج (مبنى البرلمان)، وهو المبنى الذى كان يتخذه هتلر مقرا لقيادته الرايخ الثالث.
ولزائر هذا المبنى في برلين (بالطبع متاح لأى شخص دخول المبنى والتجول فيه بل والتصوير فيه أيضا)، أن يرى رسومات وكتابات على الحائط بالألمانية والإنجليزية والروسية، فقد أبقى الألمان على الكتابات والرسومات التي كانت على جدران المبنى بما فى ذلك التى كتبها ورسمها الروس قبل رحيلهم عن ألمانيا فى جزئها الشرقى، بما فى ذلك كتابات فيها «شتيمة» واضحة وخارجة للألمان من الروس.. وهو ما جعل فتاة روسية طلبت منها المرشدة التى كانت تشرح لنا (كنت ضمن وفد إعلامى مصرى يزور برلين الأسبوع الماضى) الجرافيتى على جدران البرلمان الألمانى من الداخل وبالقرب من المكتب الذى تم تخصيصه للمستشارة أنجيلا ميركل ترجمة ما كُتب بالروسية.. فتحرجت الفتاة مما هو مكتوب ويحمل ألفاظا خارجة متهكمة على الألمان، مدعية أنها لا تستطيع الترجمة.. فأخرجتها المرشدة من حرجها وفهمنا ذلك ببساطة
بالطبع ثورة 25 يناير، التي يسرقها الآن مَن يتصدرون المشهد السياسي سواء كانوا جنرالات معاشات المجلس العسكري أو قوى سياسية متحالفة أو شخصيات تنتمى بشكل واضح إلى نظام مبارك المخلوع، أطلقت طاقات عظيمة لدى الشباب والمبدعين فى المجتمع. ومن بين هذا الإبداع كان فن الجرافيتى أو الرسم على الجدار الذى أظهر فنانين شبابا عظاما فى هذا الفن.
 وقد زاد من الإبداع فى هذا الفن الانتهاكات التى قام بها جنرالات المجلس العسكرى ضد الثورة وشبابها من ضرب وتعرية الفتيات وقتل الثوار ودهسهم بالمدرعات وإطلاق الخرطوش وإصابة العيون فى أحداث ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء ووزارة الداخلية وكشوف العذرية واحتجاز البنات فى المتحف المصرى.
 كل ذلك كان له أثر كبير فى فن الجرافيتى وانتشاره على جدران المبانى المختلفة لمجمع التحرير والجامعة الأمريكية ومجلس الوزراء والشوارع المحيطة بها وعلى رأسها شارع محمد محمود وشوارع وسط القاهرة.. وكلها رسوم وكتابة سياسية ساخرة وتهكمية على ما فعله الذين يديرون البلاد ويتحكمون فيها وعلى الحالة التى أوصلوا البلد إليها وهى حالة لا تبشر أبدا بالخير الذى قامت من أجله الثورة وسقط فيها آلاف الشهداء والمصابين من أجل تغيير حقيقى فى المجتمع ومن أجل الكرامة والعزة والحرية، فالشعب أراد إسقاط النظام لا حسنى مبارك فقط.
 والشعب يريد تغييرا فى جميع مؤسسات المجتمع، والشعب يريد حكما ديمقراطيا حقيقيا لا حكما بالتوافق بين العسكر والإخوان، ورئيسا يعبر عن الناس لا عن توافق العسكر مع القوى السياسية التى يلتحف بها، وهى التى كان يجب أن يكون مصيرها كمصير حسنى مبارك بعد الثورة، فهم أنفسهم كانوا يمثلون ديكورا لحكم مبارك ووقودا لامتداد حكمه من الاستبداد والطغيان.. فكان الجرافيتى حلا لفنانى الثورة لفضح هؤلاء جميعا.
 لكن السادة وارثى النظام المخلوع لا يريدون أن يبقى ذلك الفن الجرافيتى عالقا على الجدران، فيأمرون موظفيهم بإزالته ومسحه.
 فهم لا يريدون للثورة وقيمها أن تؤرَّخ إلا على طريقتهم بأنهم هم الذين حموا الثورة.. ويطلقون منافقيهم وموالسيهم وهم أنفسهم الذين كانوا يوالسون حسنى مبارك وعصابته ليدَّعوا ذلك.
 ومع هذا سيظل هذا الجرافيتى مخلدا وبطرق أخرى غصبا عن سارقى الثورة.


ـــــــــــــــــــــ
رئيس التحرير التنفيذي لجريدة التحرير المصرية

أضف تعليق

أضغط هنا لإضافة تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.