كتاب سبر

إفهام الأغبياء!

ومن جاهلٍ بي وهو يجهل جهله

ويجهل علمي أنه بيَ جاهلُ

المتنبي

محاولة إفهام الأغبياء ضرب من البلاء ، ونوع من العناء ، تستجلب الداء ، وتستوجب استعمال الدواء ، تلهيك عن مواصلة الطريق ، وتجعلك في بحر الجدال البيزنطي كالغريق ، تتعلق منه بقشة رجاء أن يفهمك ، وتقاسي من علو موج كلامه السيئ إذا كلّمك فكلَمك ، ولا يابسة بالقرب ، ولا يخلصك منه سوى رحمة الربّ ، تصغي في البداية لكل ما يخرج من فيه ، حتى تختم الحوار معه بقولك : لقد آن لأبي حنيفة أن يمدّ قدميه!

نخطئ خطاً كبيراً حين نقضي وقتاً طويلاً في إفهام بعض الجهال وأهل الغباء بما نريده ونصبو إليه ونسير في اتجاهه ، ولكننا نعود منهم بخفي حنين دائماً ، ونتذكر حينها قول الإخوة في مصر : “علّم في المتبلّم يصبح ناسي” ، لأن المتبلًم لن تجني من محاولة تعليمه وإفهامه سوى التأخر عن المضي قدماً نحو هدفك ، فدعه ولا تكثر عليه التأسف ، وسلّم له جدلاً بكل ما يقول ، ثم أعطه ظهرك ودعه يفرح في قرارة نفسه ، ويرفع علامة النصر ظنّاً منه أنه قد انتصر نصراً مبيناً ، بينما تواصل أنت السير بخطى ثابته تحمل همّ قضيتك ، وتجعل الوصول إلى نهاية الطريق مرادك الأول لا غير ، ولسان حالك كما قال المتنبي : “نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا” .

إن محاولة إقناع كل مخالف ، وتعليم كل جاهل ، وإفهام كل غبي ، ستبطئ من سيرك على الأقل ، هذا إن لم توقفك عن المسير أصلاً ، فكم سئمنا من الجدال العقيم في إفهام بعض المخالفين في بعض القضايا ، وكم تعبنا من حمل السيوف في ساحات الفكر ، وإذا بنا في مؤخرة الركب ، فأصبحنا كالمنبتّ الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى !

في عصر أحد الملوك الأغبياء ، كان هناك حمار – أجلكم الله – لا يمت لجنس الحمير بصلة إلا في الاسم فقط ، وصادف يوماً أن شاهد الحمار قطعاناً من الأبقار تجري بسرعة هائلة ، فاستوقف الحمار بقرة وقال لها : ما الخطب ؟! فأجابته البقرة بأن الملك الغبي قد أصدر أمراً بقتل جميع الأبقار في البلد ! ، عندها جرى الحمار بأقصى سرعة ليظفر بحياته ، فاستغربت منه البقرة وسألته : ولماذا تجري وأنت حمار ولست بقرة ؟! ، فأجابها بحكمة : “عاد تعال فهم الملك الغبي إني حمار مو بقرة” !!

لقد عرف ذاك الحمار – أجلكم الله – أن محاولة إفهام حقيقة الأمر لذلك الملك الغبي قد تودي بحياته ففضل الهرب على أن يجعل حياته معلقة بشعرة إفهام غبي .

خلاصة القول : إنك إن أكثرت التوقف في محطات الجدال العقيم ، واستراحات إفهام الأغبياء ، وأضعت الأوقات في الرد على كل مسيء ، فلن تصل إلى هدفك المنشود في الوقت المحدد ، وربما لن تصل إليه أبداً.