أم الدنيا.. مَن أبوها
خلود عبدالله الخميس
منذ أن ولدنا نسمع أن مصر أم الدنيا، وأن من يشرب من ماء النيل لا يملك إلا العودة له، فهو مسحور بمادة التحنيط الفرعونية، التي تصنع أبدية البقاء، فهي تبقي الأجساد إذا غادرتها الأرواح، وتبقى داخل القلوب التي منذ أن ترتشف أول قطرة من نيلها لا تظمأ أبداً.
كثير من الأوصاف جعلت لهذه البقعة سراً، كلٌّ يريد اكتشافه بنفسه، لا أن يسمعه من غيره أو يقرأه في كتب التاريخ، أُريقَ بين جنباتها عرَق ودماء، وعاصرت أحداثا هتكت سترها منذ فجر التاريخ حتى أشرق وأنارها معه الحكم الإسلامي، ولكنها لم تنج من مذابح الدول الدينية التي أساءت «كطبيعة البشر» السلوك، وأشاعت الظلم وأخذها الله مثلما فعل بالظالمين الغابرين.
وعادت واستقرت لحاجة البقاء فاجتمعت الطوائف على الدولة المدنية، وتسببت خيراتها وثرواتها بضرب حاجز زجاجي بين الملوك والشعب, هذا الحاجز يتصدع تارة ويبقى عشرات السنين هكذا مشوّه ضعيف معرَّض لانفجار مفاجئ في يد منحوس ما لمسه راثياً لحاله، ولكنه يدفع ثمن تعاطفه شظايا زجاج في وجهه. هكذا كلما أتته عاصفة انكسر، وأخذ معه من الضحايا.
وما يحدث مرافقاً لكل ثورة شعبية هو تماماً ما نشير إليه، فهل لتاريخ مصر ما أهلها لتكون أمنا مع الدنيا؟
كم تفكرت في آية «ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ». هذه الأرض التي عُيِّنت في كتاب لا ريب فيه، ماذا علينا من واجب لكي ننزلها منزلاً تستحقه؟
يوم أمس كانت انتخابات بعد الثورة، وهو اليوم الذي تتلقى فيه عائلات الضحايا الذين أسقطهم النظام السابق موتى العزاء، مثلما هي العادات في الأرياف المصرية لا عزاء إلا بعد أن يؤخذ بثأر القتيل، بغض النظر عن دينه وعرقه، هو مصري وهذه عاداته, ومصر أمّه ولا أحد ينظر لهوية أمه بشك!
أظن أن «القومية العربية» كمصطلح فيه جاهلية القرون الأولى التي نبذها القرآن والتشريع السماوي الذي ينادي بالتقوى كمعيار تسمية وفخر، ولكننا في «جاهلية» ما ننتفض لعروبة مصر، وعروبة سوريا، وعروبة العراق، وعروبة وعروبة وعروبة… وكلها «حميات» أسقطها الواقع، ولكننا ما زلنا نتمسك بأقنعتها فوق وجوهنا الكالحة من خياناتنا لبعض باسمها، ونسينا أن ما نرتكبه في أنفسنا هو أن نضعِّف من نقاط قوتنا بأن نجعل عروتها الوثقى عصبية ما أنزل الله بها من سلطان، ونترك إما تعمداً وخيانة وإما تقاعساً وجهلاً العروة التي لا انفصام لها لنتحد باسم بذل السبب, فننتصر باسم المسبب.
مصر أمس اختارت، والمؤشرات تبين أن الشعب عاد لسبيل الرشاد، بعد تعب من الدوران حول أسباب الفقر والعجز والظلم، فهم أو فقه أن قومية عبدالناصر لم تجعل منه عبداً للناصر، وأن سلام «أنور» لم يسلمه من القتل، وأن «برنطة مبارك» للغرب لم يُبارَك له بها، فما لهم إلا الالتفاف حول الدعاة لله، فحتى الأقلية النصرانية أثبت التاريخ الصادق وليس الملفق منه، أن أكثر دولة حققت لهم الأمن على أنفسهم وأموالهم هي الدولة الإسلامية، التي تضع الموازين القسط للإنسان كما أمرها الله لا اتباعاً لأهواء الدولة المدنية، أو الدينية المتمدنة، أو الدينية الطائفية!
وأخيراً، يلح عليّ سؤال: مصر التي نعتبرها الحضن الفياض للعرب، القلب المحتمِل لقضايانا، الجند المرصوص لنصرتنا، بعد أن تعاقب عليها الملوك والحكام، وتداولتها أنظمة وإدارات، وتقاذفتها إعصارات وأمواج، وظلت على اسمها «أم الدنيا» فعلاً قد تكون هي أم الدنيا التي أرضعتنا كلنا، لكن ليكتمل نسبنا، ألا يجب أن نعرف من هو أبوها؟!.

أضف تعليق