قيلولة: غزوة الرأس الأشيب
صالح الشايجي
خيانة البشر إثم.. وخيانة القلم إحسان..
لم أرجم شبابي.. ولكن أنصفت شيخوختي..
لو سمع «مبارك».. ما قال «زهير»..
في محاكم القلم.. سفحوا ضميري ونغزوه..
السعادة في العداء.. مثل سعادة الحب..
حوانيت مشرعة الأبواب.. تبيع للنساء جمالهن..
القلم الخوّان
لم أكن انوي أن أكتب في قيلولة الأسبوع الماضي ما كتبت حول نكسة 1967 وتداعياتها وظروفها ونتائجها وما آلت إليه حالة العرب بعدها ولا ما كان جرى قبلها، بل كنت عقدت العزم وبريت القلم وسننت رأسه لأفتح صفحة للبوح الذاتي ولفتح نافذة أطل منها على حياتي طوال خمسة وأربعين عاما منذ عام النكسة حتى يومنا هذا، وكان البساط الذي مددته لأسير عليه في كتابتي الذاتية تلك.. هو هذه الأعوام الخمسة والأربعون التي مرت على عمري دون أن أحسبها لولا رنين ذكرى النكسة الذي انطلق يومذاك من التلفزيون ليأخذني في سرحة موسعة من الكتابة عن النكسة ونسيت أنني لم أنتو هذا ولم أعقد عليه عزمي ولم يدر في خلدي ولا حتى خطب بنات أفكاري، ولكن هذا هو سر الكتابة وأخطر مخاطرها حين يشرع الكاتب بكتابة فكرة ما.. فإذا بالقلم ينزلق ويطيش من يده كالسهم المارق يجرّح الهواء البريء.. ويأخذ الكاتب إلى منطقة ما كانت في خارطة أفكاره وما كان يود الولوج فيها، ولا التحويم حول تخومها ولا التهويم فوق سمائها!
إنها خيانة القلم..
من قال إن القلم لا يخون..
خانني قلمي وأخذني مسمّرا مخمّرا على غير هوى مني وعلى غير هدى وغاية.. ولا رغبة فيّ إلى تلك المنطقة الوعرة المسننة الشائكة التي غصت الأسبوع الماضي في دمها متأسيا ومتحسرا ومحزونا وكليما..
ولكنها خيانة القلم .
وأجمل الخيانات.. خيانات القلم .. يخونك بيدك.. لا «بيد عمرو»..
يخونك أمام بصرك.. وتحت بصيرتك.. فلا تقول له أفٍ ولا تعنّفه ولا تزجره ولا توقفه عن غوايته الجميلة ولا تنهاه عن خيانته الشرعية..
خيانة القلم ليست كخيانة البشر..
البشــــر يخونــــون.. فيأثمون..
أما القلم فإنه يخون.. ويحسن إلى من خانه..
وكم أحسن إليّ قلمي في خياناته المتعددة لي..
شكرا يا أيها القلم الخوان..
***
غزوة الرأس الأشيب
أعود إلى ما انتويت كتابته الأسبوع الماضي ـ لولا خيانة القلم ـ
فتحت صفحات حياتي على مدى خمسة وأربعين عاما منذ عام 1967 وحتى عامنا هذا 2012 لأرى كيف كنت وإلى أي حال صرت!
اكتشفت أنني وأنا على مشارف السبعين.. خير مني وأنا شاب في الثانية والعشرين..
عامذاك.. كنت في بدء حياتي العملية في الحقل الإعلامي كمذيع في إذاعة الكويت ولم ينقض من عمري الإذاعي سوى أشهر لم تتم السنتين..
أي انني ابن النكسة إعلاميا أيضا.. وأحد مروّجي انتصارها الكاذب الذي كنت أقرأه للناس المتلهفين.. كأخبار تردنا من مصادرها الكاذبة.. ونتجاهل المصادر الصادقة.. لأنها لا تحمل تباشير النصر الموهوم!
***
كنت عامذاك أتلمس طريقي في ذلك العالم الذي أحب..
تبحث قدماي عن طريق آمن تسلكه من دروب الحياة المتعددة..
كانت الدنيا بالنسبة لي سماء غائمة.. لا أدري أيّ من غيومها ممطر.. وأيّها ذات وعد كذوب..
عيناي مازالتا خجولتين.. ولساني مرتعش.. ويداي ترتجفان.. وقلبي بلا لون.. وعقلي في حضانته يحبو ويتعثر.. يتلو أساطير الأوّلين.. ويردد جمل من لقنوه كيف يحبو ويظل يحبو ونهوه – بمزيد من القسوة – عن السير أو الطيران.. وكان سامعا مطيعا بخنوع الخانعين وذلة المذلولين.. كلما أشرق نور الحق من لسان ذي فطنة صد عن ذاك النور خوفا من الوقوع في حبائل المعرفة والانكشاف على عالم يفكر بعقل آخر غير تراثي وغير تقليدي ولا أسطوري..
فما الذي جنيته طوال هذه الأعوام الخمسة والأربعين؟
هل أتحسر على شباب ولّى ويفاعة أنهكها الزمن؟
مثلما يفعل الناس من حولي.. وكذلك من سبقوني في جادة الحياة..
زهير ابن أبي سلمى يتحسر ويقول:
«ومن يعش ثمانين حولا لا أبا لك يسأم»..
(حسني مبارك.. لم يسمع قول زهير، لأنه رغم تجاوزه الثمانين فهو لم يسأم.. لم يسأم الحياة ولا حتى سئم الحكم.. ولكنه سئم حين نُحّي عن الحكم وطرد من القصر وبات رهين المحبسين السجن والمرض).
والآخر يقول:
«ألا ليت الشباب يعود يوما.. فأخبره بما فعل المشيب»!
أما أنا فلو عاد إليّ شبابي – وأتمنى صادقا ألاّ يعود – لعنفته وعبته وسلخته سلخ شبّيحة «بشار» لأهل «الحولة» و«القبير».. ولطردته طرد الدول للسفراء السوريين..
أنا – صادقا أقول – شيخوختي خير من شبابي.. وأنا فيها أجمل وأغنى وأعقل وأكثر صوابا..
كسبت في هذا العمر ولم أخسر..
كنت واحدا فصرت تسعة..!
نعم صرت تسعة.. بستة أبناء وحفيدين وأنا تاسعهم.. رغم أني أولهم..
إذن أنا زدت ثمانية من بنين وبنات.. وجاءوا بالتساوي.. ثلاث بنات.. وثلاثة أولاد.. وحفيد صبي وبنت حفيدة..
وهذا غنى إنساني لا يعدله مال الأرض جميعا ولا ما حملته خزائنها..
عشت غنيا طوال هذه السنين الخمس والأربعين.. لأنني لا أحسب غناي بمال حصدته ورصيد ضخمته.. ولكنما غناي موجود في داخلي وفي ذاتي ولم أحسب يوما من أيام هذا العمر أن أزيد مالي أو أراكم رصيدي.. فأنا في كل الحالات غني مهما كان في جيبي من مال .. إن كان دينارا فأنا غني.. وإن كان ألفا فأنا غني أيضا لأن الغنى قناعة في الذات وليس فيما يجمعه المرؤ من مال..
***
في شبابي المولّي بلا حسرة عليه.. ماكنت شيئا.. ولم أؤسس شيئا..
لم يكن لي أعداء ولا حساد ولا كارهون.. لأنني ما كنت أستحق عداوة أحد ولا حسده ولا كراهيته.. وذلك لأنني لا شيء.. أعيش داخل الهامش ولم أكن حتى حرفا في المتن ولا حتى نقطة على السطر..
لا يذكرني أحد بخير.. ولا يطردني بشر.. لأنني لم اظهر على شاشة احد حتى يراني فيكرهني او يحبني..
بينما وأنا في شيخوختي قد جمعت طوابير من الحساد.. وصفوفا من الأعداء.. وكل يجهز لي مقصلته.. او يسل سيفه بغية حز هذا الرأس العاصي..
هذا ليس مجلب سعادة للإنسان السوي.. ولكنه أيضا دلالة على أن هذا الجامد الخامد قد أضحى كيانا متحركا مؤثرا.. تدنيه أقوام وتعلي قدره وتعز شانه.. وتقصيه أقوام ترى في الاقتراب منه رجسا من عمل الشيطان.. وترميه أقوام أخرى بما ملكت من شائن القول أو بارئات السهام..
وفي كل هذا وذاك مجلبة للسعادة..
فمثلما في الحب سعادة للمرء المحبوب.. فإن له في العداء سعادة.. وأكثر الناس كارهون.. ومن يبحث عن الحب وحده ويتجنب عداوة الناس وبغضهم.. فهو يسير على شوك «ليجمع طحينا في يوم ريح»..
وأنا على ثقة – والحمد لله – أن كارهيّ وأعدائي أكثر بكثير الكثير ممن يحبونني وهم قلة أعرف اكثرها..
***
في هذا العمر الذي وصلت إليه.. كثرت معارفي من الناس.. أصدقاء او زملاء أو معارف أو أصحاب.. وهذا غنى إنساني.. فمنهم من ألوذ تحت جناحيه في ضائقة من ضائقات الدنى ـ وما أكثرها ـ ومنهم من كان كتابا علمني الحروف كلها ولم يستعبدني ولم «أصر له عبدا»..
ومنهم من كنت أنا ظله في هجيرة من دنياه.. أو سراجا في عتمة ليله..
زدت علما.. وازددت معرفة.. فتحت كتابا وتلوته.. وآخر قرأته.. وغيره زانني.. وذاك شانني..
زرت بلدانا وعرفتها.. ولم يكن لي في شبابي من معرفة إلاّ ببلدان الجوار العربي.. (العراق وسورية ولبنان ومصر وبعض السعودية)..
في شيخوختي – غزوت برأس أشيب – بلدانا كنا نحسبها من الخيال.. فإذا هي حقيقة من صنع أهلها..
في شبابي الغابر.. كنت أخاف من نقض الخرافة.. وصرت في شيخوختي.. راهبا في معبد الحقيقة.. وسيّافا تصهل خيلي في ميدان ذبح الخرافة..
كنت عروبياً طائشاً.. و«ناصريا» غرّا..
أحسب العربي مغسولا بماء السماء.. ومنزّلا منها.. لم يطأ أبوه أمّه ليخرج من صلب آدمي..
أحسبه خير من دب على الأرض متكرما عليها بوطأته المباركة.. وان الأرض تأخذ بركتها من تلك الأقدام العربية..
عنصريا كنت.. ألعن غيري في سري.. ولولا الحياء – أو هو الخوف – لكان اللعن في العلن..
أفتح نافذتي كل صباح.. منتظرا شمس اليوم الموعود الذي يحلق فيه قومي بأجنحتهم يملأون السماء وفي مناقيرهم حجارة من سجيل يبيدون بها غير العرب!
لماذا؟ لا أدري.. هكذا كان يصوّر لي شيطاني العربي..
و «ناصريا» غرّا.. كنت..
أطوي «الزعيم» بين جوانحي.. طي العروس لقلادة عرسها..
أتدفّأ باسمه.. وأتنفس صوته.. وأطرب لصورته..
تلك كانت جاهلية مبكرة.. وغواية ساذجة.. وغيبة عقل كبرى..
في شيخوختي شفيت من تلك الأمراض كلها.. استرددت عقلي.. وآمنت بعد جاهلية.. واهتديت بعد غواية.. وتطهرت من عنصريتي..
في شيخوختي صرت إنسانا..
وما كنت – في شبابي – كذلك..
تخليت عن الخرافة.. فآمنت..
وتركت العروبة بعدما شرقت بدمائها.. فصرت عادلا..
وما عدت أفتح نافذتي بحثا عن تلك الشمس اللوابة.. ولا عن قومي الذين يملأون السماء بمناقير «سجّيلية»!
***
خلال تلك الأعوام المختومة بتلك الأرقام الخمسة والأربعين.. ولجت عوالم جديدة.. أنست إليها وأنست إلي..
كتبت في الصحف السيارة.. بعدما كان طبع حرف لي أمنية دونها «خرط القتاد وإدخال الجمل سمّ الخياط».. فصارت حروفي كلها تنهال على المطبعة زرافات ووحدانا.. وتجول بين العيون الجوالة.. من عين لاعنة.. إلى عين راحمة..
رشني قليلُ القوم.. بماء الزهر..
وأكثرهم بسهام.. تكسرت نصالها على نصالها..
دخلت في دنيا الكتابة معارك.. حسبت ساحاتها.. جمرا ينطفئ.. فإذا بها نار موقدة..
عرفت الطريق إلى محاكم القلم.. وفيها سفحوا ضميري ونغزوه بشوك مدبب..
وخرجت من كل ذاك أسير على قدميّ.. وأرج الهواء بيديّ..
لم ينقص مما أحمل شيء..
دمي مازال يتدفق.. وعيناي مازالتا خجولتين مكسورتين.. وقلبي لا يحسب دقاته..
في شيخوختي..
الدنيا صارت أجمل..
النساء صرن أجمل..
صرن يشترين جمالهن من حوانيت مشرعة الأبواب..
قلّ حياؤهن.. فصرن أبهى وأجمل وأقرب للقلب..
تجمّلنَ وتزيّنّ وتشابهن.. حتى صرن كالدمى المصفوفة للعرض الآدمي..
صرن كعرائس المولد.. يذبن بالماء أو بين الشفاه..
صرن.. «يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به.. وهنّ أضعف خلق الله إنسانا»..
***
في شيخوختي..
صارت الدنيا أصغر..
بعيدها صار قريبا جدا.. وقريبها بات تحت طائلة البصر..
ما كان في شبابي حلما.. لم يحلم به أحد.. وخيالا لم يدر في خلد عاقل ولا مجنون.. غدا حقيقة نراها تمشي على الأرض.. أو بين أيدينا رهينة بلا قيد..
***
كل شيء صار أجمل..
فيا أيّها المولول على شباب ولّى.. لا تولول ولا تتحسر..
افتح نافذة شيخوختك.. وارنُ من بعيد إلى شبابك.. ولترَ.. في أيهما كنت أجمل.. شبابك أم شيخوختك؟
لا تلعن شيخوختك..
لا تلعن الأجمل.

أضف تعليق