كتاب سبر

سعدية وأخواتها

إذا غامرت في شرف مرومِ


فلا تقنع بما دون النجومِ


(المتنبي)


هكذا هي الشمس كلما مالت للغروب وضاق الناس ذرعاً بالظلام القادم ، وأوشكوا على ترديد عبارة (ياليل ماطولك) ، تلألأت في السماء نجوم تضئ عتمة المكان ولسان حالها يقول : أنا لها أنا لها ، فيسعد بوجودها المحزون ، ويفرح بنورها المغبون ، فسبحان من قال : (وعلاماتٍ وبالنجم هم يهتدون) .


تختار صحيفة (الغارديان) البريطانية الشاعرة الكويتية البدون سعدية مفرح كممثلة للكويت في خارطة الشعر العالمية ، فتشرئب أعناق البدون ، وترتفع هاماتهم مفتخرين برحم المعاناة الذي يربطهم بها والذي أنجب لهم هذا الإبداع ، متباهين بصلة القرابة (البدونية) التي تجمعهم مع هذه الشمس الساطعة شعراً ، لاسيما (التيماويين) منهم فهؤلاء لها كالعَصَبة لهم مالها وعليهم ما عليها ويلحقهم من ميراث إبداعها الشئ الكثير ، بينما هي فرحة مستبشرة بهذا كله ، وحق لها ذلك ، وما ذاك إلا عاجل بشرى المبدع .


وفي الوقت نفسه يكاد العنصريون أن يأكل بعضهم بعضا حنقاً وضيقاً من هذا الخبر الذي أصابهم في مقتل ، محاولين التقليل من هذا الانجاز بتجاهله تارة أو بمحاربة الشاعرة المكرمة تارة أخرى ، وحالهم كحال ضرائر الحسناء قلن لوجهها كمداً وبغضاً إنه لقبيح ، بينما تنام هي ملء جفونها تاركة لهم وسائد الحسرة وأغطية العويل .


وهناك في الجانب الآخر تتألق أخوات سعدية كورود في بساتين الأمل وكزهور في رياض المستقبل ، ذللن الصعاب تلو الصعاب وقاومن كل المعوقات حتى رفعت الرايات البيضاء استسلاماً لرباطة جأشهن ، أرادوا تقييدهن بالقيود الأمنية فأطلقن للفكر والعقل العنان إذ لا قيود تقيد العقول ، وأرادوا إشغالهن بلقمة عيشهن فانبرى لذلك رجال كفوهن المؤنة واحدهم إذا انتحى قال : (أنا أخو فلانة) ، وأرادوا أن يجعلوهن يعانين من عقدة النقص فأبين إلا أن يأتين كاملات ، تلك الورود هي الطالبات المتفوقات من الكويتيات البدون واللواتي حصلن على نسب عالية في نتائج الثانوية العامة وتم إهمال تكريمهن أسوة بغيرهن من الطالبات المكرمات ، لكنهم نسوا أن قلوب مائة ألف من البدون أو يزيدون ومعهم قلوب الشرفاء كرمت تلك الورود تكريما قد لا يرينه لكنهن بالتأكيد يشعرن به .


لا شك بأن الحرب الضروس التي كانت ولا زالت تشن على البدون كان لها كبير أثر في الرجال منهم فكيف بالنساء وهن الأضعف عادة على تحمل الصعاب والمشاق ؟! ، وإن هذه الإنجازات التي تتحقق على يد بنات البدون ليعتبر شيئا عظيماً إذا ما قورن بحجم المعاناة التي يعانينها ، فحين كانت النساء في العالم يطالبن بحقهن في التعليم كانت البنت البدون تجلس مرغمة في بيتها رأفة بحال ذويها وهي تراهم يعانون فقراً لا يرحم ، وحين كانت النساء في العالم يطالبن بحقهن في قيادة السيارات كانت البنت البدون ترأف بحال أخيها الذي لا يمتلك رخصة قيادة فضلا عن أن يمتلك سيارة وتحاول تصبيره ، وحين كانت النساء في العالم يطالبن بحقهن في الخروج للعمل أسوة بالرجال كان لبنات البدون قدم السبق في ذلك مكرهات حين افترشن الساحات المقابلة للجمعيات التعاونية والمدارس لبيع الملابس أو قطع الحلوى ليثبتن فعلا لا قولا بأن الواحدة منهن عن عشرة .


سعدية وأخواتها فخر للكويت وفخر لإخوانهن من البدون ، ونبراس أمل يجب أن يحتذى في محاربة الصعاب وتذليلها ، والاجتهاد في تحويل المحن إلى منح ، وتصيير البلايا إلى عطايا ، وكيف لا وهن ينتهجن منهج أختهن الكبرى سعدية صاحبة العبارة التي يحفظها كل البدون اليوم وهي (أنا بدون جنسية لكني لست بدون وطن) .