كتاب سبر

الحقيقة !

كم هي مؤلمة الحقيقة، ولكنها حقيقة وأن تغافلنا، وإن غضضنا الأبصار، وخفضنا الجُنْح، وملأنا الليل بشموع الأمل، وسددنا آذاننا بكل عجين مخبز الحارة، وإن طمسنا الأحرف وشوهنا الكلمات، وإن أملينا للناس ما يقولون، وقالوه لنا لنصدق عكس الحقيقة، سيبقى ألم الحقيقة موجودا أبداً ! 
كم هي الحقيقة حارقة كالشمس، ولكنها كذلك، وإن خفف وطأها حتى حين ” الكريم الحامي ” من الشمس، وإن حجبتها الستر المسدلة على الشبابيك، وإن باغتتها زخات مطر صيفية باردة غير متوقعة، وإن هزمها تكييف الأماكن المغلقة، وإن زاحمها الظل في كسب القلوب للينه وفظاظتها، سيبقى حرق الحقيقة موجودا أبداً!
كم هي الحقيقة غامضة كدرب التبانة الذي لا يعلم أحد حتى من أطلق عليه اسمه، وإن ادّعوا، وإن كان اسمها محكما لا مناص من تأويله، وإن كانت، ظاهراً، تستخدم للبيان، وخفاءً، تملك يدا تكشف وفي الوقت ذاته أخرى تطمس، وإن لهثت البشرية خلف المصطلح ظناً بجدواه، وإن كانت كل الحقوق ترتكز عليها، وإن كانت كلمة السر لبشرى المظلومين، يبقى غموض الحقيقة موجودا أبداً !
للحقيقة رائحة كريهة، وإن مثلنا بأننا نستحب رحيقها، وإن قاومنا الرغبة الصارخة بالجري خلاف طريقها لنطيل المسافة ووقت وصولها إلينا، وإن اشترينا من يكذب علينا ولا يذكرها لنا، أو يذكرنا بها، ويتركنا في الغيّ نمرح، وإن أشعلنا العالم ببخور مستخلص من شجر عمره آلاف السنين، تبقى الحقيقة كريهة أبداً !
كلنا نتجنب الحقيقة وإن كذبنا وقلنا عكس ذلك، فلا أحد يحب الألم ! لا أحد يريد أن يحترق ! لا  أحد يهوى الغموض ! لا أحد يستحب الروائح الكريهة !
إذاً لم نبحث دائماً عن الحقيقة؟ لم نستأجر من ينقب عن خفايا الأمور لتبين الحقيقة؟ لم نحلف حتى يصدق بعضنا بعضاً بأننا نقول الحقيقة؟ لم نعتبر ” قول الحقيقة ” صفة جيدة في الإنسان ما دامت النتيجة أن نكره قائلها ونعتبره صادقا، ولكن سبب في آلامنا لذلك لا نريد له البقاء بقربنا، لأنه صادق، ولكن مؤلم، والرغبة باللذة تتفوق على الرغبة بالألم، إلا عند مرضى استعذاب الألم، فنبتعد عنه وعن أماكن وجوده، لأنه يذكرنا بالحقيقة المؤلمة الحارقة الغامضة ذات الرائحة الكريهة ! 
لمَ نبحث عن الحقيقة؟ أليس الأولى، والأكثر منطقاً، أن نركب أول قطار سريع يسير عكسها ويقذف بنا بين أحضان طبيعة مخضرة جميلة؟ أو طائرة نفاثة نبلغ بها أقاصي الأراضي؟ أو غواصة تلقي بنا في أعماق المحيط؟ أو منطاد يطير بنا لمجهول؟ أليس الأفضل أن نوليها ظهورنا ونمارس التغافل والاستعباط ؟!
هل تساءل أي منا يوماً، لمَ أريد وبقوة أن أعرف الحقيقة، التي حين أعرفها سأتألم أكثر ؟!
هذه السطور ليست إلا دعوة للتفكر فيما وراء المفاهيم، فأحياناً كثيرة يحتاج العقل زيارات مفاجئة منك لمناطقه الجديدة، قد تجد فيها إجابات مختلفة، أو تجد الحقيقة الحقيقية !
 twitter@kholoudalkhames