كتاب سبر

حب من طرف واحد !

نظراً لأنه “لا يعرف الحب إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يقاسيها” تبقى محاولة وصف ما يلاقيه المحبُّ من المعاناة ضرباً من الخيال ، فالكلمات لا تسعفه ، ومفردات اللغة كلها مجتمعة لا تنقذه ، وتنهيدة واحدة قد يعجز عن ترجمتها الشعر والنثر معاً ، فيعود المحب من أجل تفسير حالته وما يلاقيه إلى الكلمة الأولى وهي “الحب” ولا شئ سواه ، ليصبح كمن “فسّر الماء بعد الجهد بالماءِ”. 
الحب جنون، والجنون فنون، وعلى هذا دأب المحبون، وسار العاشقون، ولأن “كلٍّ بعقله راضي” لم تثنِ “عنترة” الرماح النواهل منه ولا السيوف التي تتقاطر من دمه عن تذكر “عبلة” في ذلك الوقت العصيب بل والأدهى أن “جنونه” وصل لدرجة رغبته في تقبيل تلك السيوف لأنها ذكرته بابتسامة “عبلة” الجميلة!، ولذات السبب لم يهتم قيس لكونه أصبح “مجنون” ليلى، بل إنه أرجع ذلك إلى علّته التي تكمن في قلبه “الخضر” حتى بات يدعو فيقول :
فإن تكن القلوب مثال قلبي
فلا عادت إذن تلك القلوبُ
لأنه ذو قلب أرقه الحب وأعياه السهر والتفكير في معشوقته “ليلى” ، حتى أصبحت تلك المعاناة مع طول الوقت جزءاً منه يتلذذ بها حتى لو كان الموت هو نهاية ذلك العشق ، بل إنه ذهب لأبعد من ذلك بكثير حين رأى بأن العشق الذي لا يقتل أهله عشق لا خير فيه فقال :
فما خير في عشق ليس يقتل أهله
كما قتل العشاق في سالف الدهرِ
ياساتر !!
فلا عجب إذن أن نسمع الكثير والكثير من معاناة العاشقين المحبين رغم أن العشق والحب كان متبادلاً في كثير من الأحيان بين الطرفين ، فما بالك إن كان هذا الحب كله والعشق من طرف واحد ؟! طرف ينام ملء جفونه وطرف يسهر الليل جراء حب عائم في بحور اللامبالاة من الطرف الآخر عجز عن ايجاد مرسى له ، وجراء “مكاتيب” غرام يرسلها القلب والعيون عجزت عن إيجاد صندوق رسائل مفتوح في قلب المحبوب فباتت مهملة و”أخذها الهوا” ، هذا إذا لم يجابه ذلك السيل العارم من الحب باهتمام بسفاسف الأمور وصرف النظر عن أصل الموضوع وزبدته ، كما يقول حمد السعيد :
أنا احترق وهي ولا همّها شي
وأنا انتظر وهي تمدد سفرها
ياسعود عقب غياب شهرين شوي
جتني تشاورني بقصة شعرها !
فإذا كان الحب الأول قد أصاب بعض أهله بالجنون ، فإن هذا الحب بالتأكيد سيصيب بعض أهله في مقتل !
في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت هناك حادثة تجلى فيها كيف يكون الحب من طرف واحد حيث كانت هناك صحابية اسمها “بريرة” اشترت نفسها من سيدها فحق لها الاختيار بين أن تبقى زوجة لعبد مملوك هو “مغيث” أو أن تنفصل عنه فاختارت الانفصال عنه رغم حبه الشديد لها لدرجة أنها ردت شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم من أجل رجوعها إليه ، حتى جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله : إن زوج بريرة كان عبدا يقال له مغيث ، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعباس : “يا عباس ، ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثا ؟” رواه البخاري .
ذاك هو الحب من طرف واحد ، ومنه بل من أشده ، وأقساه ، وأكثره لوعة ، حين يكون حب الأوطان من طرف واحد ، طرف يتغنى ليل نهار في حب وطنه والذود عنه وبذل الغالي والنفيس من أجله ، يقابل هذا كله بجحود ونكران وعدم اعتراف من قبل الوطن بمواطنة ذلك المحب بل يقوم الوطن باعتباره دخيلا عليه مرتزقاً لا أكثر ، ذاك هو بالضبط حال البدون المحبين لوطنهم الكويت في زمن الجحود والنكران ، وفي زمن تقريب العاقين ، وإبعاد البارّين ، في زمن إكرام السارق ، وإهانة الأمين ، حتى صار المحب لوطنه غريباً فيه ، يتمنى أن يحظى منه بوصال عفيف ، أو أن يظفر منه بنظرة رحمة يعقبها اعتراف له بحقه في المواطنة ليثبت قلبه الذي كاد أن يطير ، حتى أن البدون قاربوا على أن يتمثلوا لفرط حبهم لوطنهم ولقسوة ما يلاقونه منهم بقول “المجنون” :
فإن تكن القلوب مثال قلبي
فلا عادت إذن تلك القلوب
 
منصور الغايب