كتاب سبر

اختلف معي و احترمني !

لولا العقول لكان أدنى ضيغمٍ
أدنى إلى شرفٍ من الإنسانِ
المتنبي
لا تناقض إطلاقاً بين مفردتي “الاختلاف” و “الاحترام” ، وواهم من ظنّ بأن العلاقة بينهما كعلاقة الملائكة مع الشياطين إذا حضر أحدهما هرب الآخر ! ، ومخطئ من ظنّ بأن الاختلاف مع المقابل مسوّغ لعدم احترامه والتنقص منه وتسفيه رأيه وأن الاختلاف في الرأي يجب ألاّ يبقي للود بقيّة ! ، فالاختلاف في الرأي شيء والاحترام المتبادل شيء آخر، ولعدم الاحترام أسباب كثيرة جدّا ليس من بينها بالتأكيد الاختلاف في الرأي .
من حقك أن تختلف معي في الرأي ، ولكنك يجب أن تعي أن من حقي عليك أيضاً أن تعاملني وتعامل رأيي باحترام ، وأن تبادلني الرأي بالرأي لا أن تبادلني الرأي بالسباب والشتم والتنقص وعدم الاحترام ، فالحجة إنما تقارع بالحجة والرأي إنما يواجه بالرأي وكل من عدل عن ذلك ففيه من فرعون موسى شبه حين حاوره موسى فقال له : (أولو جئتك بشيء مبين) ؟! ، فطلب فرعون حينها ما يحق له أن يطلبه وهو الحجة والدليل والبرهان فقال : (فأت به إن كنت من الصادقين) ، فلما قدم له موسى ما لديه من حجج وبراهين ومعجزات ربّانية ، عدل فرعون عن مقارعة الحجة بالحجة والرأي بالرأي – وأنّى له ذلك – إلى أسلوب التخويف والتهديد والاستهزاء والسخرية فقال : (إن هذا لساحر عليم) وقال : (لئن اتخذت إله غيري لأجعلنك من المسجونين) ، وغيرها من العبارات التي حكاها الله عزّ وجلّ لنا في كتابه الكريم ، والخلاصة أن أسلوب العدول عن مقارعة الحجة بمثلها هو أسلوب فرعوني لا يليق بمن يدّعي صبحة وعشياً أنه يحترم الرأي الآخر وأن الاختلاف في الرأي لا يفسد للودّ قضية .
تصيبني الدهشة حين أرى التسفيه وعدم الاحترام للرأي المخالف ، وتصيبني الدهشة بشكل أكبر وبصورة أعظم حين يكون هذا الرأي المخالف مبنياً على أسس شرعية وأدلة قوية مبناها الكتاب والسنّة وأقوال سلف الأمّة حتى بدأت أتيقن بأن هذا الأمر مقصود لعلم المخالفين بقوة تأثير الرأي المبني على أسس شرعية في آراء العامّة والذين وإن قصّروا كثيراً في حق الله عزّ وجلّ إلا أنهم يأرزون إلى الرأي الشرعي عند اتخاذهم القرار كما تأرز الحية إلى جحرها ، ولهذا كان تشويه هذا الرأي بصورة أكبر وبطريقة أشدّ وما الحملة التي يتعرض لها أصحاب هذا الرأي في مواقع التواصل الاجتماعي إلا صورة حية من صور التشويه المتعمد لأصحاب الرأي الشرعي المخالف ، حتى أصبحنا نسمع البعض يطلق عليهم أوصاف كعلماء السلطة وأصحاب الفتاوى المستأجرة وغيرها من أوصاف دافعهم في إطلاقها هو تشويه صورة أصحابها لثني الناس عن الأخذ برأيهم لا أكثر.
اعلم – رحمك الله – بأنه ليس لأحد حق الوصاية عليك في ابدائك رأيك واتخاذك قرارك ، لذلك لا تكن ضيق الأفق وتظن أن كل رأي مخالف لرأيك سيقوم بأخذك من تلابيبك إلى حيث يريد صاحبه فتبادر إلى أن “تتغدى” بصاحبه قبل أن “يتعشى” بك هو ، فإنما هي دلالة النصح والإرشاد وعلى الله الهداية والتوفيق ، فقل ما شئت ودع غيرك يقل ما يشاء في حدود المتعارف عليه شرعاً وعرفاً فإن أعجبتك بضاعته فاشترِ منها بالقبول ما تشاء ، وإلا فإنه يسعك أن تكون من الذين يتفرجون ولا يشترون كما أنه بوسعك أن تغادر السوق باختيارك وأنت تقول لمن فيه (لكم دينكم ولي دين) ، وأما إن كنت من الباعة فاحذر أن يكون شعارك “الزين عندنا والشين حوالينا” واعلم بأن الله قسم الأرزاق ، وقسم العقول أيضاً ، وأن الناس حتى لو لم يرضوا بما قسم الله لهم من أرزاق إلا أنهم بالتأكيد قانعون بما قسم الله لهم من عقول.