كتاب سبر

إلى حمد العزب في غيبوبته

 
من محاسن المرض أن تأخذك غيبوبة في زمن مريض يحتاج العالم فيه إلى جراحة قلب تعيد إليه احساسه بناسه.
ومن مكارم الغياب أن تغيب عن الزمن وأنت فيه.فتعرف قدر الناس قبل أن تفقد قدرتك على النبض وقبل ألا يعوا قدرك بشكل كاف واف.
 
كنت يا أباعبدالله محبا للناس، صديقا للصادقين، تنفر من المزيفين، تعالج الأخطاء، تصحح الأحداث، وتوثق العلم.. 
حرصت طوال مسيرتك على  أن توثق مكارم الأجداد، وتحيي قصص الأبطال.. كأنما كنت تعرف مسبقا أن الأحفاد سينفضون عن مائدة المكارم (ينفضون أيديهم) لا حمدا ولاشكورا… ويغلقون دفتر البطولة على آخر قصة تقرأها لهم..
خمسون عاما  أو ما يقاربها ونحن ننتظر مساء كل أحد حكاياتك المشوقة، ونستمتع بطريقة عرضك للقصائد وربط البيت الحديث بالبيت البعيد.. والمعنى الجديد بالمعنى القديم..
 
خمسون عاما أو مايوازيها وأنت تشجع الشباب وتفتح نوافذ الإبداع، وتحكي التاريخ.. وتستعيد الأمجاد..
كم من شاعر لم تجد طيور إبداعه منفذا إلى فضاء  الحرية ولم يتحقق لها وجود.. إلا من خلالك..
كم من مؤلف استشارك.. فأرشدته.
ولاتنافس ذاكرتك في الشعر والتاريخ والحكايات القديمة.. إلا الطرائف التي تلطف بها الأجواء، فلا تفتتح حديثا مع صديق بعد السلام إلا بـ “نكتة” 
كنت دوما تحتفل بالحياة.. وتوزع علينا البهجة.. تدس الأنس في قلوبنا وتمضي.. 
وفي “الواسطة”.. كنت حاضرا دوماً.. كلما قال لك شخص ما (أريدك تشفع لي عند فلان).. قلت له على الفور: موعدنا في مكتبه غدا..
وفي كل رمضان تحلو تعاليل ديوانيتك.. ففي كل مساء يكون للسمر لذة  تشبه حلاوة ليالي الشهر الكريم..
تشبه طعمها..
تشبه تهاليلها..
تشبه هيلها.. ويهطل ليلها.. بأحلى الأحاديث..
في الكويت كنت ألتقي بك بين آن وآن.. تعطينا دروسك بالمجان.. وترمي  طوق البهجة.. للغرقى في الهم والحزن.. يتمسكون به.. ويخرجون مبللين بالأمل..
في أبوظبي.. أجريت معك حوارا تلفزيونيا طويلا.. الله ما أجمل ذلك اللقاء, وما أروع ذكرياته.. لم ينغص فرحي فيه إلا حزنك وأنت تعود وقد خذلتك ظنونك بوعود كبيرة.. من صغار تطاولوا وجهال تعاقلوا!
وفي دوحة قطر.. كانت لنا أيام.. وآلام..
وها أنت تغيب في مرضك .. يسأل عنك أحبابك، يزورك أصدقاؤك.. ويدعون لك بالشفاء.. ويستذكرون أجمل حضورك..
 
لكن المسؤولين في بلدك يعانون من غيبوبة مزمنة يا صديقي.. مثلهم مثل كثير ممن رافقوا مسيرتك.. وأخذوا من ضوئك.. ثم مضوا بعيدا عنك.. بلا وفاء.
 
لم يقف منهم أحد على حضورك.. ولم تتولى جهة ما تكريمك والاحتفاء بك.. واستذكارك..
جهات الإعلام.. مشغولة وهي تتصارع مع بعضها، وتفقد الذاكرة عند أول غياب.. فهي لاتذكر إلا من تراهم كل يوم..
بعض إعلام بلدك لايعرف إلا من يذهب إليه يوقع الحضور ويبصم على عدم الانصراف..
أنت ياحمد في قلوبنا.. لكنها قلوب تتألم وهي تسأل: هل يعقل أن جهات الثقافة في غيبوبة يصعب علاجها؟
..
 
أما آن لك ياحمد أن تستفيق
أم أنك تريد أن تجاري وطنك في غيبوبته..؟!
 
 
 
بقلم.. علي المسعودي