كتاب سبر

وفي قاعة الانتظار.. درسٌ عظيم

رحلة جديدة أقطع تذاكرها لأسافر مع آلام العين التي تتكرر معي حتى أصبحت لا أشكو حجم الألم لتعوّدي عليه، فمشاكل البصر ضيف ثقيل يزورني باستمرار، ولأني كريم الضيافة أتحمله صابرًا وفي يقيني أن الله إذا احب عبدًا ابتلاه.
هناك.. في قاعة انتظار المرضى حيث يقف الزمن وتتجمّد عقارب الساعة ألمًا وصبرًا في رجاء وصول الطبيب المعالج، لأشكو إليه حزني مع ضعف النظر وآلام العين التي أفقدتني لذة القراءة ومتعة الكتابة، فأمثالي تجارتهم رِبح ماقرأ.. فلا درهم ولا دينار ولنا مع كآبة المنظر صفحاتٌ وعناوين.
انتظر الطبيب لأشكو وقوف الحظ عاثرًا معي في كل خطوة قصيرة متواضعة أخطوها لأعزي نفسي بأن الله لا يمنعك إلا ليعطيك، وفي ختامها أمسح دموع اليأس وهي زاد المساكين.. فكل الأحزان دخلت من باب ألم العين لأسدل ستائر الإحباط على نوافذ التفاؤل بانتظار الفرج الكبير.
بهدوء.. دخَلَت وجلست أمامي، بحجابها المحتشّم ولبسها الفضفاض، أتت لتعالج عينها بعد احتراق وجهها بالكامل حتى بات بلا ملامح، لف الوجوم وجوه الحاضرين وكل الهمسات في قاعة الانتظار غلّفها الصمت الحزين، فالصمت لغة لايجيدها إلا عاقل ولا يفهمها إلا حكيم، وفي صمتنا نطقت الشفقة على حال من غدرت بها الحياة وجعلتها تعيش بهذا التشوّه الذي يتفطّر القلب حزنًا وشفقة على صاحبته.

رفَعَت رأسها وسألت “أذّن” ..!؟
لم ينطق بنا أحد، فالجميع خجل من نفسه وهمومه وأحزانه أمام بؤس هذه الصابرة، مرّت لحظات لأجيبها، نعم أذّن
كانت تخشى أن يفوتها موعد الصلاة الذي فات الجميع، كانت تخاف أن تترك ماقام عليه الدين وما يصل الإنسان بربّه لتقوم ملبيةً نداء الجبار العظيم الذي تسجد له سائلةّ العوض في الآخرة وما الدنيا إلا متاعٌ إلى حين، وكم نحن غافلون.
خجلت من حزني وألمي وهمي الذي يعد فرحًا وسرورًا أمام مأساة حقيقية لشابة في عمر الزهور، قتل الزيت الحار إشراقة ملامحها فعاشت مشوّهةً بوجهٍ محترق لا يُبصر النور، بت استغفر ربي على ماكنت أردده بيني وبين نفسي قبل قدومها. 

من ذا الذي يريد أن يشكو للطبيب حظّه العاثر؟
أنا الذي يعيش باسمًا تعكس الشمس أشعتها على جبينه أم تلك التي تقتلها نظرات المشفقين على بلائها الذي خطف سعادتها وشعورها بالحياة؟
أنا الذي يرتدي جميل الهندام ويُصيبه غرور الشهرة الكاذبة أم تلك التي لم يعد للألوان في عالمها إحساسٌ وتعابير؟
أنا الذي تزدحم حياته بالأصدقاء الرائعين والأوفياء المحبين أم تلك التي يضعونها في هوامش البؤساء والمستضعفين؟
أنا الذي مفتونٌ بشبابه غافلًا في حياته أم تلك التي تنتظر حشرجة الموت لترحل لعالم الخالدين؟
تغيّرت مفاهيم الحياة ببضعة دقائق وبت أسخر من همومي الساذجة وحزني الغبي/ فمن يرى آلام الآخرين تبدلت آلامه ديباجٌ وحرير.. فياله من درس عظيم.
جميعنا يغفل عمّا أنعم الله عليه مِن نِعَم، فجبال الأحزان في صدورنا تتحول بالصبر والإيمان لوديان من السعادة والراحة فالقناعة زاد الزاهدين، علينا أن لا نتذمّر من واقعنا وأن نتكيّف مع ظروفنا ونؤمن أن الغنى والراحة في الإيمان بالمكتوب والقناعة بالمقسوم والسعادة في تضخيم الإيجابية لدينا، وأن نتذكّر أن الله خلقنا وكتب لكلٍ منا رزقه ولو هرب الناس من رزقهم كما يهربون من موتهم لأدركهم الرزق كما يدركهم الموت.. فلا تحزن وابتسم للحياة.
مناجاة:
يارب .. كم نحن مقصرون في طاعتك وحمدك وشكرك وأنت أكرم الأكرمين فلك الحمد بما أنعمت به علينا فاغفر لنا تقصيرنا وغفلتنا يارب العالمين
إضاءة:
من أبصر حياته من نوافذ غيره .. شاهد المُلك العظيم
آخر السطر:
مافي أحد مرتاح يافهيد
دويع العجمي