كتاب سبر

سيكولوجية الجماهير

إن الانفعالات التحريضية المختلفة التي تخضع لها (الجماهير) يمكنها أن تكون نبيلة أو أن تكون لئيمة، أو بطولية أو جبانة وذلك بحسب نوعية هذه المحرضات.. هكذا يصف المفكر الفرنسي غوستاف لو بون عقلية الجماهير في كتابة الفريد (سيكولوجية الجماهير) والمطبوع في العقد الأخير من القرن الثامن عشر.. الشاهد من هذه المُقدِمه المُختصرة، يتمثل في محاولة لربط الحقائق الواردة في الكتاب، بوقائع أحوال الجماهير العربية بعد أحداث ربيعُها وما تلاه، وذلك من خلال تباين مواقفها، وتضارب ردود أفعالها ما بين المعارضة تارة والموالاة تارةً أُخرى، فـ على سبيل المثال لا الحصر، إن الناظر للكم الهائل للتحريض الإعلامي من قبل بعض أنظمة المنطقة تجاه الجماهير العربية ضد جماعة الإخوان المسلمين، سيعي تماماً حقيقة تلك الإنفعالات وردود الأفعال الجماهيرية المناهضة لـ (الجماعة) .. في حال كان هذا الناظر في منأى عن الجماهير، وبعيد من موجات التحريض الإعلامي التي تعصِفُ بعقليتها وتُلوِث أفكارها، فقد أكد غوستاف على حقيقة أن الجماهير لا تستطيع اتخاذ قرارات ذكية مثلما يستطيع الفرد ذلك، وحتى لو كانت هذه الجماهير مُؤلفه من أفراد أذكياء وأصحاب عقول مستنيره، فالقرارات التي يتخذها عدد ومجاميع من أشخاص ذوي ثقافة كبيرة ومُحصِله عِلمية عالية، ليست متفوقة كثيراً على القرارات التي يتخذها تجمع من البلهاء، لأن الجماهير تجمع الصفات المتدنية عند الجميع، وبالمحصلة تنتج الجماهير التفاهة وغياب الوعي والإدراك.. وصوت العقل والحكمة.. إذ أن الفرد المنضوي تحت جماعة أو جمهور بمجرد انضمامه لصفوف الجماهير، فإنه ينزل درجات عديدة من سُلمّ الحضارة والثقافة والرُقي، فهو حينما كان فرداً أبقتهُ الواقعية مثقفاً متعقلاً مُدرِكاً لِكُلِ ما حوله، لكن الجماهير دوماً ما تحول أمثاله إلى كائن يتصف بعفوية الكائنات البدائية وعُنفها وضراوتها وحماستها لِفترة من الزمن! 
فعاطفة الجماهير تحمل صفة الأُنثى لا الذكر، فبساطة عواطفها ويطحية تضخيمها للأمور يحميانها من عذاب الشكوك وعُقدة اليقين، كالنساء تماماً بالذهاب مباشرةً نحو التطر، وما إن يبدُ خاطِرٌ ما حتى يتحول إلى يقين لا يقبل الشك، وهذا ما يُحوِّل سيكولوجية الفرد وسط الجماهير من نمط التفكير العقلي إلى التفكير العاطفي، لِتحل المشاعر محل الأفكار عند إتخاذ القرارات والمُضيّ قُدُماً في الإنفعالات ورُدود الأفعال، وفي مثل هذه الحالة، فإن كل فرد يبتدىء بتنفيذ الأعمال الإستثنائية التي لم يكُن مُستعداً اطلاقاً لتنفيذها لو كان في حالته الفردية الواعية والمتعقلة، فـ سذاجة الجماهير وتصديقها لأي شيء وتأثرها ببعضها سريعاً.
تجعل (المُحرِك) لها لا ينفك عن إستخدام الصور الإيحائية والشعارات الخيالية بدلاً من طرح الأفكار المنطقية والأجندات الواقعية ليستملك روحها ويسيطر عليها، منتهزاً خاصية تصديقها لأي شيء وتأثرها السريع، ويتضح ذلك من خلال سرعة انتشار أي اقتراح يطلق في أي تجمع بشري، وهذا ما يسبب عادةً كثرة الإشاعات والتوجيه الأرعن للعاطفة باتجاه محدد.
ولا سيما أنه من الغباء الإعتقاد الجازم أن المحرك الرئيسي للجماهير يتمثل دائماً في شخصية زعيم مُعلن أو قائد مُلهِم تتبعه وتنصاع لقراراته بالضرورة، فمصدر الإلهام والتحريض الجمهوري من الممكن أن يكون سلسلة مصالح مشتركة لمجموعة قنوات أو صُحف أو أي وسيلة إعلامية بمقدورها تنفيذ أجندات داخلية وخارجية لتوجيه الرأي العام ودغدغة مشاعر الجماهير لتسير خاضعه منصاعه .. متوهمةً السير وفق الإرادة والمشيئة، إذ يتخذ الأفراد أنفسهم ما إن يتشكلوا في مجاميع سمات خاصة لم تكن موجودة فيهم مسبقاً، أو يمكن القول أنها كانت موجودة، ولكنهم لم يجرؤوا على البوح بها أو التعبير عنها بمثل هذه الصراحة والقوة، خصوصاً وإن المُلهم على درايه تامه أنها، أي الجماهير.. تخضع لتحريضاته وإيعازاته التي يعرف كيف يفرضها عليها .. فهو يتوجّه مباشرةً إلى عاطفتها، لأن قوانين المنطق العقلاني لا تحمل ذات الوقع والتأثير العاطفي .. فـ ليست الوقائع بحد ذاتها هي التي تؤثر على المخيلة الشعبية، وإنما الطريقة التي تعرض بها هذه الوقائع.. كطريقة العرض الفارق ما بين (وقائع قتلى ما قبل 30 يونيو وما بعده في مصر) رغم تشابه الباعث والكيفية في كلا الحالتين) .. أو الفارق مابين (الملاحقات السياسية وتناولها من قِبل الإعلام المصري والعربي لرجالات الحزب الوطني من جهه، وجماعة الإخوان المسلمين من جهةٍ أخرى بعد تداعي كِلا المنظومتان عن الحكم رغم تباين فُرُوقات جُرم وفساد الأولى عن الثانية حسب تصور الرأي العام.. ومِن هُنا يحرِصُ (المُحرك) على انخراط أكبر عدد من الأفراد في منظومته الجماهيرية، فما إن ينضوي الفرد في الجمهور يكتسب بواسطة العدد المجتمع فقط شعوراً عارماً بالقوة، وهذا ما يتيح له الانصياع إلى بعض الغرائز ولولا هذا الشعور لما انصاع أبداً، فإن كان الإحساس بالمسؤولية هو الرادع للفرد، فانه يختفي في مثل هذه الحالة كلياً، وبما أن الجماهير لا تعرف وتعترف إلا بالعواطف البسيطة والمتطرفة، فإن الآراء والحلول والتنازُلات التي تُعرض عليها تُقبل من قِبلها أو تُرفض دُفعةً واحدة، فإما أن تعتبرها حقائق مطلقة أو أخطاء مطلقة، مع الأخذ بعين الإعتبار حقيقة أن الجماهير تحترم القوة ولا تميل إلى إحترام الطيبة التي تعتبرها شكلا من اشكال الضعف كما يصف غوستاف، وهذا ما نلحظه في الفارق مابين الجماهير التي خرجت مناهضه لأحمدي إبان أزمة إنتخابات فترة ولايته الثانية ضد خصمه كروبي، ومابين الجماهير التي خرجت مناهضه للرئيسان مُبارك ومرسي، لذا فمن السهل والمُمكِن توجيه الجماهير عبر بث سموم عدوى التكرار بين صفوفها، فالتأكيد المجرد والعاري من كل محاجة عقلانية أو برهانية، يشكل الوسيلة الموثوقة لإدخال فكرة ما في روح الجماهير.. وسرعان ما يتحول التكرار إلى الرسوخ في الأنفُس لدرجة تقبُله كحقيقة برهانية، ومع مرور الزمن ستنسى الجماهير مصدر هذا السُمومْ المُكرره لينتهي بها الأمرُ إلى حد الإيمان بها.