كتاب سبر

أحلى من الشرف مفيش

تقول إحدى النكت أن الرئيس الأمريكي اجتمع مع أحد القيادات العربية لمناقشة القضية الفلسطينية.. وطال النقاش طويلاً واحتدم وارتفع الصراخ حول موضوع القدس، إلى درجة أن الرئيس الأمريكي غضب وصرخ فى وجه القيادي العربي قائلاً له: اسمع عندك خيار من إثنين، إمّا أن تتنازل حالاً عن القدس وإما أن (……)! وبعد دقائق خرج القيادي العربي من الاجتماع وهو منشغل برفع “بنطلونه” ولكم ان تتخيلوا ما حدث فى قاعة الاجتماعات.. قائلًا للصحافيين المجتمعين خارجاً: گال بدو إيانا نتنازل عن القدس گال.
طبعاً هذه النكتة خيالية، فلا أظن ان القدس ضاعت بسبب “الميول الجنسية ” الأمريكية، بقدر ما أضاعها الجزاء من “جنس العمل”، عملٌ جعلها شعارًا يحمى قضية شرف ويضيع فى المقابل قضايا شرف اخرى، مثل الديموقراطية والحريات وخلافه.. ولكم فى دعاوى الأنظمة العربية خلال الخمسين سنة الفائتة خير دليل، كل نظام أراد قمع شعبه وسلبه حريته يتحجج بقضية فلسطين، وإنه لا صوت يعلو فوق صوت معركة تحرير المقدسات، حتى وإن كان هذا الصوت صوت إصلاح ديموقراطي وتطوير لآليات الحريات والتداول الغير سقفي للأفكار.
ولن أشغلكم هنا بالشعار نفسه حاليًا، فصوته خافت الآن، وغير مسموع، فلم  تعد الأنظمة العربية تتحجج بفلسطين إلا لماما “وإذا توهقت بس”، ربما كنتيجة للاستهلاك الطويل له على درب دغدغدة المشاعر ومطباته الواقعية، وربما لقلة قطع “الغيرة” عند الشعوب العربية  فى الوقت الحاضر إلى درجة أن خبر اقتحام الحرم القدسي صار خبرًا لا يلقى له أحد بالاً، ولا ألوم الشعوب فقد اشغلتها آلامها ومآسيها المميتة للشعور عن جرح فلسطين، وكما قيل ما لجرح بميت بإيلام.
ما أريد الوصول له هنا، هو حقيقة أن الشعار نفسه تحوّر كما يتحوّر الفيروس، فأحتفظ بالخطوط الرئيسية له وإن اختلفت التفاصيل، فقط حذف اسم فلسطين ووضع مكانه مصطلحات أخرى مثل الفتنة وسفك الدماء والوحدة الوطنية والعدو الخارجي المتربّص ووو الخ، فصارت أي محاوله للإصلاح المجتمعي والسياسي والاقتصادي، تصطدم بدعاوى شعارية مثل لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وطبعًا المعركة هنا وهمية وضعت كنتيجة مؤكدة لا تقبل النقاش، وبدون أن نعرف تضاريس ساحتها، وبدون أن نتعرّف على أي رقم من أرقام معادلتها.
شعار الأنظمة العربية القديم، لم يفهم أن أي تطوّر إصلاحي منتج لمزيد من  معادن الحريات والديمقراطية، هو رصاصة مضافة ستوضع فى مخزن بندقية تحرير فلسطين بلا شك، فلا الشعارات ستحرر حجرًا من المقدّسات ولا الأوهام سترفع راية استرداد لذرة من كرامة الأمة، وكذلك الوضع حاليًا مع فيروس الشعار المتحوّر فإن أي حوار مفتوح يناقش الإصلاح، وأي تداول للأفكار تحت سقف الحريات هو رصاصة لا تخيب، يخافها أعداء الأمة اكثر من غيرها ما دامت فى جيبنا.. وصدقوني “أحلى من شرف الحرية مفيش”.