كتاب سبر

“حميل السيل”

عن ثوبان عن النبي قال: “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها”، وقال قائل: “ومن قلة نحن يومئذ؟” قال: “بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن”.. فقال قائل: “يارسول الله وما الوهن؟”، قال: “حب الدنيا وكراهية الموت”.
وقد تداعت علينا الأمم ونحن أمة المليار أو يزيدون، وقد تداعت علينا الأمم على شدة ضعف منّا حتى قال فينا زعيم العصابة الصهيونية منتصف القرن الماضي حاييم وايزمن أمام ملأ الأمم المتحدة يخاطب سفير أمريكا يومئذ: “لا داعي للخوف من العرب فهم ضعفاء بطريقة بائسة”، وقد وصف النبي يومئذ بما سيؤول إليه حالنا للسائل ومن قلة نحن يومئذ؟ قائلاً: بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل.. وغثاء السيل، هو حميلة من رغوة وفتات الأشياء، وهل يملك حميل السيل من السيل شيئا؟!
إن أمة الإسلام اليوم كما صورها الحديث لا تملك من أمرها شيئًا، فتات حكومات، ورُغى أنظمة، في سيل الحدث العالمي،فكيف لنا أن صرنا كذلك؟! إنني سأقتطع سبباً من الأسباب الكثيرة، لكنني أراه الذي انبنى عليه غيره، لأنه حبل الصلة بين الناصر والمنصور، وأول علامة لما يصدّق عليه لفظ المسلم، أعني الصلاة. فأقول: “إن تعداد المسلمين اليوم يفوق المليار، كم من هذا المليار يصدق عليه هذا اللفظ ظاهراً؟ وكم من هؤلاء المصلين من يلتزم الصلوات الخمس؟ ثم كم من يلتزمها في الجماعة؟ لقد أعجبني مرة اتصال الصفوف من المحال التجارية إلى المسجد يوم الجمعة في إحدى الدول الإسلامية، فلما أظهرت سروري لذلك أجابني مرافقي قائلاً: “هؤلاء لا يصلون إلا الجمعة، ويكتفون بها كما يكتفي النصارى بالأحد”.
ولنأت لنشخّص حال من يلتزم بصلاة الجماعة، كم من هؤلاء من يلتزم بصلاة الفجر، ثم لنأتِ إلى من يلتزم صلاة الفجر، كم منهم من له غيرة على دينه؟ وكم منهم من يفهم الأخوة في الإسلام؟ وكم منهم من يفهم أن خلافه مع أخيه صاحب الحق لابد أن يكون ضمن سور هذه الأخوّة؟
كنت مرة في أحد المجالس فرأى أحدهم على شاشة هاتفي إشارة “رابعة” فقال مستنكرًا يعاتبني: “شيخ هذا شعار الماسونية، وهؤلاء ماسونيون”.. فقلت: “وكيف عرفت بذلك؟!”.. قال: “عندهم مرشد وتنظيم هرمي”.. إن هذا لا ينطق عن هوى، بل عن ثقافة تأصّلت بسماع وقراءة ومتابعة لمتبوعين مجموعٍ لهم ناس، صبت اهتمامه بالشعار، لتفصل اهتمامه عن قتلى الشعار.
إن هذا التشخيص العابر للبقية الباقية للمليار يبين كيف آلت الأمة إلى أن تكون هذا الغثاء الذي دمر قلبه الوهن ليجعله حميلاً للسيل.. لكنني ورغم ذلك، أرى اليوم من خلال محن أحداث الربيع العربي، مايبشّر بمحن.
إن في شباب مصر الذي يتواصى بكتابة بياناته على جسده حينما يخرج للتظاهر، وأجناد الشام من قبلهم، بداية لانتزاع الوهن، الذي جعلنا حميلاً للسيل، إنني أرى فيهم العيدان التي تتجمع على جوانب السيل يجرف بعضها ويَبقى بعضٌ منها يتشبّث، ليجتمع إليه بعض آخر يتشبّث، ثم بعض آخر، ثم آخر، ليكون من هذه العيدان سدًا يحد من تدفق هذا السيل، أو يفرقه جداول غائرة متفرقة موحلة.