كتاب سبر

“ذبّان” الكثيري !

تحت رماد تناقض المواقف يُرى وميض جمر المصالح ، وبين تبدل الأقوال بلاتوضيح ؛ يتضح الارتكاز على ذاكرة الجماهير الضعيفة نسبياً ، وبين المبالغة في المدح والفجور في القدح ؛ ترقد المباديء الهلامية التي يحييها التصفيق والتطبيل ؛ ليرقص المتابع المنصف على صوت قرع طبولها مذبوحاً من ألم الحسرة.
شاعر “كثيري” يقف معتذراً أمام رئيس مجلس الوزراء السابق ، تائباً آيباً يلقي باللائمة على زمرة ضالة أضلته عن معرفة الحق حتى هداه الله ليسوق قرابين الشعر أمام الرئيس السابق علّها تشفع له ، حتى هذه اللحظة يبدو المشهد عاديّاً جدّاً ، ولا شيء فيه يثير الحفيظة ، فلكل إنسان الحق في اتخاذ الموقف الذي يتناسب مع قناعاته ، واتباع الرأي الذي يدين الله عزّ وجلّ به ، وكان أحد السلف يقول : ” إني لأرى الرأي اليوم وأعود عنه غداً وأرى الرأي غداً وأعود عنه بعد غدٍ” ، ولا يعيب الإنسان كائناً من كان عودته عمّا يراه باطلاً إلى ما يراه حقّاً ، بل هذا دأب الصالحين على مرّ الأزمان ممن يعرضون أقوالهم وآراءهم كل يوم على ميزان الحق ليعرفوا مدى قربها أو بعدها عن الصواب ، ولله درّ أبي الحسن الأشعري الذي صعد على المنبر ليخلع ثوبه أمام الناس معلناً أنه خلع مذهب الأشاعرة كما خلع ثوبه .
لكن لا تغترّ عزيزي القاريء ، فالمشهد الحقيقي لم يكن بذات الجمال الذي ذكرته أعلاه ، وصوت رنين المصالح الذي كان يعلو من بين الأبيات أسمع من به صمم ، ورائحة الفجور في الخصومة مابين الشاعر وأصدقاء الأمس الذين انقلبوا عليه ليصبحوا أعداء اليوم كانت تزكم الأنوف.
نقطتان مهمتان أردت أن أتناولهما بالطرح مما قرأته بين ثنايا تفاصيل القصة أعلاه :
الأولى : أن مبدأ التزلف من أصحاب الأموال والنفوذ عبر الثناء الكاذب المتشكل على هيئة شعر وإن كان هو دأب الشعراء منذ القدم إلا أنه يفقد ما تبقى للشاعر من رصيد هيبة واحترام في قلوب متابعيه ، حتى وإن اعترفوا بشاعريته إلا أنهم لا ينكرون تذللـه وخضوعه ، وهذا يشبه قول الشاعر خلف مشعان : “من ذلّ لو قالوا سلم يبقى بنظرتهم ذليل”، كذلك من تذلّل وإن قالوا عنه شاعر نحرير سيبقى في نظرة الجماهير ذليل ، والجماهير بدأت تمتعض وتبدي امتعاضها من هذا السلوك المشين الذي يجعل من صاحبه في عيون الناس “مسّاح جوخ”.
وإن عبارات كـ “خذني بحضنك” و “بردان” و “ياحاتم” و “الكفّ النداوية” عبارات لا يمكن أن نفهم منها إلا معاني “الشحذة” التي تسترت بوزن وقافية وهي شبيهة “بشحذة” ابن الذيب لابن مكتوم : “خذني من البدي عندك في القمارة” و “ياطويل العمر ماعندك عمارة ؟!” وقول ابن حمري : “ياسيدي سلطان لا تلحاني” ، والتاريخ يسجل وكلٌّ يقدّم ما يرتضيه لنفسه.
كما أن الشاعر أخطأ حين نال من أصدقاء الأمس ليرضي أصدقاء اليوم ، وكان بإمكانه أن يبدي اعتذاره شعراً ويسطر فيه ما دفعه للرجوع إلى الحق – من وجهة نظره – دون أن يسيء لأصدقاء الأمس ، ولكنه لم يفعل أيّاً من الحسنيين فلا سلم منه أصدقاء الأمس ولا هو بيّن لأصدقاء اليوم سبب رجوعه  وتبدّل آرائه ويادار ما دخلك “شعر”!.
الثانية : أن مبدأ الفجور في الخصومة مع كونه صفة من صفات المنافقين كما صحت بذاك الأحاديث ، فهو أيضاً صفة لاتنفك عن النزاع السياسي في الكويت ، فكلا الطرفين لا يتورع عن استخدام كل الأسلحة المتاحة ، ولا يمانع من الضرب تحت الحزام ، وتجييش الشبيحة ليشنّوا حرباً شعواء الخاسر فيها لا يسلم على عرضه ناهيك عن أي شيء آخر ، ومن علامات الفجور في الخصومة هو ماتعرض له الشاعر الكثيري من عبارات السب والشتم والطعن في العرض مما نال من عائلته وقبيلته أيضاً لاسيما من عراة الأخلاق الذين يتسترون خلف الأسماء المستعارة التي لا تستر عورات أخلاقهم ، كما أن هذه الحادثة بيّنت لنا جليّاً أننا نتساهل كثيراً في إطلاق عبارات المدح والثناء المبالغ فيه على من يتفق مع آرائنا ابتداءً حتى نجعل منه البطل الذي لايشق له غبار أو الشاعر الذي لا يجارى نظمه أو المحامي الذي ينتصر للمباديء والقيم حتى إذا ما نكص على عقبيه رحنا نبحث عن عبارات قدح بحجم عبارات المدح تلك علّها تنسي المتابعين ما قلناه سابقاً وتستر شيئاً من عورة سذاجتنا التي تكشفت ، و “الكثيري” كان نموذجاً لهذا التخبط في المدح ومنح الألقاب فما ناله من مدح وقدح من كلا الطرفين عند مدحه للنائب السابق مسلم البراك لايقل عما ناله من قدح ومدح من كلا الطرفين أيضاً عند مدحه لسمو رئيس مجلس الوزراء السابق.
تمر الحوادث تلو الحوادث وما إن ننشغل بحادثة وتنقضي إلا ونصبح على أخرى حتى أصبحنا نكره الهدوء ونعشق الصراخ والعويل ، والأهم من هذا كله أننا مع كل حادثة يتبين لنا بأن مشكلتنا أخلاقية بالدرجة الأولى ، وأن الترسبات التي تخلقها فينا مثل هذه الحوادث لن ينتهي أثرها سريعاً ، فطوبى لمن كان له عدو منصف عاقل ولا عزاء لمن ابتلي بعدوّ فاجر لا يراعي فيه إلاًّ ولا ذمّة.
@Mansour_m