كتاب سبر

حجم الإساءة والمسيء

جاء في كتاب الأمثال للميداني عند الكلام على مقولة: (لو ذات سوار لطمتني)، قال رحمه الله: يضرب للكريم يظلمه دنئ فلا يقدر على احتمال ظلمه.
والمعنى لو ظلمني من كان كفؤا لي، لهان على، ولكن ظلمني من هو دوني، وقيل أراد لو لطمتنى حرة، فجعل السوار علامة للحرية؛ لأن العرب قلما تلبس الإماء السوار، فهو يقول: لو كانت اللاطمة حرة لكان أخف على، وهذا كما قال الشاعر:
فلو أنى بليت بهاشمي … خؤولته بنو عبد المدانِ
لهان على ما ألقى، ولكن … تعالوا فانظروا بمن ابتلاني.
وروى الأصمعي المثل برواية (لو غير ذات سوار لطمتني)
وذلك أن حاتما الطائي مر ببلاد عنزة في بعض الأشهر الحرم، فناداه أسير لهم يا أبا سفانة أكلني الإسار والقمل، فقال: ويحك! أسأت إذا نوهت باسمي في غير بلاد قومي، فساوم القوم به، ثم قال: أطلقوه واجعلوا يدي في القد مكانه، ففعلوا، فجاءته امرأة بغير ليفصده فقام فنحره، فلطمت وجهه، فقال: لو غير ذات سوار لطمتني، يعنى أنى لا أقتص من النساء، فعرف، ففدى نفسه فداء عظيما. انتهى.
هذه الحقيقة لا تحتاج تأكيدا وشواهد لتأكيدها لأنها من البديهيات التي تدرك بالفطرة…فالناس ببديهتها تقيس الإساءة من حجم المسيء…كما قال الشاعر رعد الشلال:
سهلة من الطيّب تفوت بصعوبة،
وصعبات بعض الرجال ما تحسب صعاب…!
فالإساءة الطفيفة “السهلة”تعظم إذا أتت من شخص يتحلى بصفات نبيلة وله وزنه…والإساءة العظيمة “الصعبة” تصغر إذا أتت من وضيع عُرف بالدناءة ورداءة الخُلُق…وكلما كثرت مزايا الشخص ازداد تعظيم صغائر إساءاته.
كما قال الشاعر سبيل بن سند الحربي في رده على الأمير السديري:
حيث إن مثلك تزعل الناس عوجاه…
رجّال عِرْف ومن حمولة وشايب…!
فمفهوم المخالفة لكلامه لو لم تكن رجل عرف وأصيل وكبير سن لهانت علينا “عوجاك” وإساءتك ولم تغضبنا…ولكنك رجل تتحلى بصفات نبيلة تجعلنا نقف عند تفاصيل تفاصيلك ونأخذ كل ما تقوله مهما صغر بعين الإعتبار…!
وعلى العكس من ذلك كلما كثرت رذائل الشخص ازداد تحقير الناس لعظائم اساءاته…ولو انساق الناس خلف هذه البديهية الفطرية ولم يجدوا من يشكك بها ويخالف نواميسها كما شُكك بغيرها من البديهيات”عبثًا” لقلّت كميّة الإساءة على سطح الأرض…فالوضيع إذا همّش يتلاشى والكريم إذا عوتب ينصاع للفضيلة…وتنزيل الوضيع منزلة الكريم في العتاب وتنزيل الكريم منزلة الوضيع في التهميش ستؤسس لمفاهيم منكوسة سيتجرع المجتمع مرارتها زمنًا طويلًا…!