كتاب سبر

“لن أقول مثلما قال فولتيير”

فيما ينسب إلى فولتيير أنه كان يقول:”قد أختلف معك في كل شئ،لكنني مستعد أن أضحي بحياتي من أجل أن أحفظ حقك أن تقول رأيك”.
لكنني لاأختلف معك في كل شئ، ولاأريدك أن تضحي بحياتك من أجل أن تحافظ على حقي بأن أقول رأيي،كما يريد أن يفعله فولتيير،ليس شيئاً من ذلك..فقط أريد منك لتسمع لرأيي لأنه في أسوء حالاته لن يكون منافياً لرأيك،فإن السماع للآخر مظنة التقارب والالتقاء،وإن أريد إلا ذلك..ألا ترى إلى الذين كفروا حينما أدركواهذه المظنة، سارعوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا”لاتسمعوا لهذا القرآن..”.
إن الامتناع من السماع والاقتصار على مصدر واحد للتلقي،يدعو إلى توهم الصواب وقصره على هذا المصدر.وفي ذلك يقول الإمام أيوب السختياني؛
“لايعرف الرجل خطأ معلمه حتى يجالس غيره”..آي يسمع لغير معلمه.
جلسنا مرة عند ابتدائنا الطلب إلى الشيخ،فشرع في تحرير مسألة نقض الوضوء بمس الأجنبية من غير حائل على مذهبنا،مذهب الشافعي،القائل بالبطلان مطلقاً،حتى إذا فرغ الشيخ من تحرير المسألة،صار كاليقين عندنا،بطلان الوضوء بالمس. ثم راح بعد ذلك يشرع في تحرير نفس المسألة على مذهب أبي حنيفة،القائل بعدم النقض مطلقاً،حتى إذافرغ من تحرير المسألة، صار عندنا يقينٌ بنقض مذهبنابالنقض على الإطلاق!!
 لقد أسمعنا معلمنا مبكرين ضرورة استماعنا لقول الغير. 
 إن جلوسك إلى العلماء،أو قراءتك للعظماء يحدد لك موضع عقلك،ليس ذلك فحسب،بل تحديد رتبة مصدر تلقيك بالنسبة لغيره..لكنك حينماتكون بين عقول مثلك،أو من عقلهم دون عقلك،ستكون حقيقتك في نفسك هي وَهَم غيرك في حقيقتك.
حدثني أحد الإخوة يقول:صحبت عمي المسجد يوم الجمعة،وارتقى الخطيب المنبر،وراح يتكلم ويطيل،ويعلو بصوته ويخفت،ويخفض المرفوع مرة وينصبه،ويحطم المنصوب أخرى و”يسحله”بكلام لاعلاقة له بالجمعة إلا موافقة الوقت،ثم لما فرغ من ذبح العربية،صلى بنا وأنا أتميز غيظاًوأكاد،حتى إذا سلم،إذا بعمي يلتفت إليّ ويقول:”إي بالللله خطيب،فقلت وأنا حسير:إي بالله خطيب.!!
وذهب يسلم عليه وقد احتشدالناس حوله للسلام عليه!!
لم أقرأ تصنيفاً،أو مؤلفاً للمتقدمين إلا استوطأ له بمقدمة،يدفع بها عن نفسه المبادرة بنفسه إلى التأليف،فتجده ينسب ذلك إلى طلبته الذين يرجون منه شرحاً لما استغلق
أو طلباًمن الأمير،الذي أجابه إلى ذلك تحرجاً بردِّه،أو صديقٍ ألح عليه بشرح مختصرٍ لإتمام فائدته،ومن مثل ذلك من دعاوى الحياء.
لاشك أن دافع الحياء مادفعهم إلى ذلك،لكن دافع الخوف من الزلة أمام الغير ربما كان الأعظم.
قيل لعبدالملك بن مروان وهو أحد أربعة لم يلحنوا:شبت ياأمير المؤمنين!!
قال:كيف لا وأنا أعرض عقلي على الناس كل جمعة؟!
لقد تصور الخطأ من نفسه،بمخافته لمعرفته بغيره.
إن الانقطاع إلى المثيل،والاحتجاب به عن الغير،يعزز  من تقزم الحق وتصور أحقية الاستئثار به دون الغير،ليصنع بذلك مسلمة باطل طالما عانت الأمة منها ولاتزال،وهي”صوابي لايحتمل الخطأ”،لاسبيل إلى نقضها إلا باختراق هذا الاحتجاب بالسماع..فهل من سامع؟؟