كتاب سبر

الإخلاص وحال المجتمع!

مزايا تفشّي الفضيلة في المجتمع وتقلّص الرذيلة تُعدّد ولا تُعد فسببها تعزز روح العطاء في الفرد نحو المجتمع وتسود النظرة الحسنة بين أبناء المجتمع لبعضهم…وتغيب إساءة الظن عنهم…
ويغلّب جانب الفضيلة في التعاطي مع الأفراد وقياس أفعالهم…وشاهد ما أقوله ما رواه البخاري ومسلم عن حصين بن عبد الرحمن قال : كنت عند سعيد بن جبير فقال : أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة ؟ فقلت : أنا ، ثم قلت : (أما إني لم أكن في صلاة) ولكني لُدغت ، قال : فما صنعت ؟ قلت : ارتقيت ، قال : فما حملك على ذلك ؟ قلت : حديث حدثناه الشـعبي ، قال : وما حدثكم ؟ قلت : حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال : لا رقيةٍ إلا من عينٍ أو حُمَةٍ ، قال : أحسن من انتهى إلى ما سمع ، ولكن ، حدثنا ابن عباس عن النبي أنه قال : ” عُرضت علي الأمم ، فرأيت النبي ومعه الرهط ، والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي وليس معه أحد ، إذ رُفِعَ لي سوادٌ عظيم ، فظننت أنهم أمتي ، فقيل لي : هذا موسى وقومه ، فنظـرت فإذا سوادٌ عظيم ، فقيل لي : هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ” ثم نهض فدخل منزله ، فخاض الناس في أولئك ، فقال بعضهم : فلعلهم الذين صحبوا رسول الله ، وقال بعضهم : فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً ، وذكروا أشياء ، فخرج إليهم رسول الله فأخبروه ، فقال : ” هم الذين لا يسترقون ، ولا يتطيرون ، ولا يكتوون ، وعلى ربهم يتوكلون ” فقام عكاشة بن محصن فقال : ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال : ” أنت منهم ” ثم قام رجل آخر فقال : ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال : ” سبقك بها عكاشة”.
فنقاء هذا الجيل الذي شهد له عليه الصلاة والسلام بالخيريّة هو الذي جعل حصين بن عبدالرحمن يعقب على جوابه بقوله(أما أني لم أكن في صلاة) فيقينه بفضيلة المجتمع جعلته يدفع عن نفسه إحسان ظنهم به حتى لا يكون ممن يحب أن يُمدح بما لم يفعل…فمثل هذا المجتمع الذي يبادر بحمل أفعال الفرد على محمل الخير مهما تعددت وجوه حملها على الشر هي التي تقوي روح الايثار في الفرد تجاه مجتمعه وتجعله يجسّد فعليا قول البارودي:
أدعو إلى الدار بالسقيا وبي ظمأ…
أحقُّ بالري لكنّي أخو كرمِ…!
وقول الأمير بدر عبدالمحسن:
والله لو دمي يغيث الملاهيف…
قطّعت عرقي لين يصفى نزيفه…!.
بينما المجتمعات التي تشابه مجتمعنا بتفشّي الرذيلة وتقلّص الفضيلة لا تساعد الفرد على الانزواء على نفسه ليُريح ويستريح ناهيك عن مشاركة المجتمع وايثاره على النفس…لأنها مجتمعات تغلّب الجانب السلبي في التعاطي مع الأفراد وقياس أفعالهم ولا تحمل الفعل الذي له ألف محمل على الخير على الخير وهي تجد له محملا واحدًا على الشر-إلا من رحم ربي-!.
أمثال هذه المجتمعات التي تجسّد فيها قول الشاعر الجاهلي:
وإن يروا ريبةً طاروا بها فرحًا…
منّي وما رأوا من صالحٍ دفنوا
صُمٌّ إذا سمعوا خيرًا ذُكرتُ به…
وإن ذكرتُ بشرٍّ عندهم أذنوا…!
لا تعين الفرد على فعل الخير تجاه مجتمعه-وإن فعل لا تعينه على الإستمرار-فحال أغلب الناس اليوم بفعل الخير بعيد عن الإخلاص الصافي…فمنهم من تدفعه نحو فعل الخير نية غير خالصة بتاتًا ومنهم نيّته مكدرة بحظوظ النفس من رغبه في الثناء وغيره ليحقق بعض مآربه السياسية وغيرها…وأمثال هؤلاء استمرار عطاءهم وتوقفه موقوف على حال المجتمع…فمع تزايد الجحود يضعف عطاءهم كما قال عنترة بن شداد:
نُبّئتُ أن عمرًا غير شاكر نعمتي…
والكفر مخبثة لنفس المنعمِ…
ويزداد وينمو مع زيادة التشجيع والشكر…ولن يحل هذه المعضلة ويعين النفوس على زيادة عطاءها كلما ازداد جحود المجتمع إلا تحقيق الإخلاص وعدم الإلتفات لغير وجه الله سبحانه…نعم تحقيق الإخلاص ليس سهلا فقد جاء عن سفيان الثوري أنه قال:(ما عالجنا شيئًا مثل النيّة)…ولكن الحمدلله أن تحقيق الإخلاص ممكن ولم يتجاوز مرحلة الصعب إلى المستحيل…!!
تويتر:a_do5y