كتاب سبر

الرأي العام العربي وإيران والسعودية!
هل نرى الشيخ تميم في أبو ظبي والشيخ محمد بن زايد في الدوحة!؟

لم أؤمن يوما بالرأي العام العريض، وباستمرار كنت مقتنعا بنظرية تقسيم المجتمعات إلى خواص وعوام، تماما كما هو تخصص الطبيب أو المهندس فليس الكل يمكنه أن يكون مثلهما، فيظل الطبيب هو الطبيب والمهندس هو المهندس ومثلهما الفقيه والتمذهب، فالمذاهب هي شأن علماء جراء معرفتهم وتفقههم بالدين، وهناك مذاهب انقرضت أو لم تُعرف لأنه لم يكن هناك أتباع وتلاميذ يحملونها كمذهب الأوزاعي مثلا فعرفنا الذي نعرفه فقط، بينما انقرضت مذاهب كثيرة أخرى غيرها، ليميل الناس في الزمن الحاضر لعدم التمذهب بتركيز المسائل على (الدليل) وهو المنحى الذي يسود العالم الإسلامي اليوم ليظل التخصص هو جوهر الموضوع.
على أن الذي نشهده اليوم في زمن التواصل الاجتماعي انقلاب هذه المفاهيم البسيطة للمجتمعات، فالرأي العام بما أتيح له يتغول ويفتي بكل شأن، لنرى هذه الفوضى الصاخبة التي يقال فيها كل شيء وعن أي شيء، وليصل المتحاورون والخصوم جراء جهلهم بالأمر إلى الحل الوحيد أمامهم وهو السب!
والذي لا يعلمه العامة أو هم غير جاهزين للاقتناع بع هو أنه لا دين في السياسة!.. وخصوصا بهذا العصر.
لكن بلاء انقسام (العوام) ازدهر متجليا بأبشع صوره بعد الربيع العربي، فالشيعة مع الإصلاحات بل قلب نظام الحكم في البحرين، والسنة ضد ذلك!.. والأخيرون مع الإصلاحات بل قلب نظام الحكم في سورية، والشيعة ضد ذلك!.. وكذا باقي الأمثلة.
ولأن الأمر ليس بيد هؤلاء ولا هؤلاء، إذ يوجد محركان لهما اليد الطولى بتطورات الربيع العربي وهما الرياض وطهران، وجدنا كل جانب يتخذ بوصلته الخاصة بناء على موقف كل من البلدين!
وهكذا تمتد المسألة من العراق إلى اليمن إلى غزة حماس ولبنان وكل مكان، فهو الصراع العربي الفارسي الذي يراد له أن يكون بديلا لصراع العرب واليهود في حقبة إطفاء صراع العرب واليهود!.. فيأخذ الصراع المستجد والمستند لجذور تاريخية تأبى الانقراض، -الحقيقة أنه ليس صراعا فالناس يعيشون حياتهم على الأرض معا لينقسموا بالتواصل الاجتماعي – شكلا مثيرا للقرف وبلغة تشاتم رخيصة مملة بين (العوام): فأنتم الروافض وأنتم النواصب وأنتم أبناء (…) وأنتم أبناء (…) ألخ من قاموس نعرفه وصرنا نقرأ عباراته يوميا في لغة تحشيد وتحقيد عجيبة.
وحتى في الصف الواحد وهو صف الأغلبية وهذا منطقي، وجدنا الانقسامات ما بين سلف وإخوان، وبين قطر والإمارات وبين جامي ورخامي، وتسميات تحلل وتتحزب وتقرر!.. فصار الناطقون على منصة تويتر يحددون سياسات الدول ويمنحون الجنسيات وينزعونها وينضمون لأحلاف ويخرجون منها ليخيل لك أن حضرة المغرد هو ولي الأمر!
فالسلفي يكره الرئيس التركي وسياساته باعتبار أن المذهب السائد في تركية لا يعجبه.. الأتراك لا يتقنون الوضوء والصلاة كما سلفه الصالح هو!.. ولأن تركية تؤيد جماعة الإخوان الماسونيين!.. فهي بلد كافر ويجب على القيادة السياسية قطع العلاقات معها لأنها تراوغ وتتحالف مع الفرس المجوس!
الحمقى من هذا الطابور ونحن أمام (مناسبة) اليمن!.. يجهلون أن السعودية عام 1962 أيدت الزيدية الإمامية ضد السنة ودعمتهم بالمال والسلاح!..
والحمقى أيضا لا يعلمون أن إيران الشيعية (دستوريا) وقفت مع أرمينيا المسيحية ضد أذربيجان الشيعية، وأنها كما يخيّل لك تنصر شيعة العراق فهي تضطهد شيعة الأحواز!
والحمقى من الطائفيين يجهلون أن 90% من تركيبة الدولة السورية من السنة، رغم سيطرة العلويين على القرار (وهم بالمناسبة كفار عند فقهاء الشيعة)!.. لكنها علاقة تحالفية سياسية تطل من خلالها إيران على صراع العرب وإسرائيل فيكون أحد أوراق ضغطها لتأهيل نظامها المعزول غربيا أو أميركيا، فسورية بالنسبة لإيران هي جوهرة التاج وخسارتها ستؤدي لخسارة العراق جراء التحام الكتلتين السنيتين في البلدين بمواجهة حلفاء إيران بالعراق، أما العراق فإيران وبغض النظر عن مذهبه ودينه فإن منظورها الاستراتيجي هو بقاؤه ضعيفا جراء حالة الندية التاريخية التي يمثلها لها.
وأما في حالتي اليمن والبحرين فإن الأمر يشبه لعبة عض الأصابع بين الفالقين الصخريين – الجزيرة العربية وجبال زاغروس – أو العرب والفرس بينما الأمور على الأرض مختلفة، فسنة البحرين يتذمرون من سيطرة الشيعة على الاقتصاد والإدارة، وشوافع اليمن السنة يشتكون بأن الزيود يستحوذون على المناصب فنسبة تفوق عديدهم بكثير!.. ليكون الحال بالنسبة للبلدين شبيها بلعبة عض الأصابع بين الفالقين الصخريين – الجزيرة وزاغروس – أو العرب والفرس فيما الأمور على الأرض مختلفة، فالغرض المتبادل هو التشويش فقط لأن طهران تعلم أنه لا يمكن للسعودية أو الخليج السماح بحكومة تابعة أو حتى محايدة بين هذا الشاطئ والشاطئ الأخر.
أما في اليمن فالأمر أشد وضوحا لأنه مجرد صراع على السلطة بين أطراف ليس من بينها أي محب أو موالٍ لإيران لا سياسيا ولا مذهبيا باستثناء ميلشيا صغيرة نشأت وترعرعت بسبب تعقيدات كثيرة عند خاصرة سعودية رخوة، في حقبة على عبدالله صالح الذي استخدمها لابتزاز السعودية وتخويفها، ثم تدرج الأمر حتى استخدم علي عبدالله صالح وهو الموقع على اتفاق تنحي عالمي هذه الميليشيا ليكون حصان طروادتها في سعيه لاستعادة دفة السلطة.
إنه صراع سياسي بالمجمل.. لا علاقة للدين فيه لا من قريب أو بعيد، وهو يشبه الصراع على القرار في المنطقة بين الملك فيصل وجمال عبدالناصر، أو بين الملك فهد وصدام حسين، أو بين الهاشميين وبين آل سعود قبل ذلك بعقود أو بين بني أمية وبني العباس إذا توغلنا للأبعد في التاريخ.
أما في حال الإخوان والسلف وإسقاط ذلك على العلاقة مع تركية فإن حكومات الدول العربية معتادة على التعاون والتخادم مع الإخوان وبموافقة السلف!.. لكن ما جرى هو أنه بعد الربيع العربي بدا للحكومات العربية أن الأميركي جاهز أو مستعد، أو أنه حتى يدفع لاستبدال هذه الحكومات بنظم إخوانية.. وبمنطق (يا روح ما بعدك روح وقطع الأعناق ولا قطع الأرزاق) رأينا هذا الانفعال (النظامي العربي) ضد الإخوان فتلقفه السلفيون المساكين، معززين بأن الإخوان يتوضؤون بالماء الراكد، وأن دينهم غير صحيح!..
ولكن بعد زوال (خطر الإخوان) وتحديدا عقب انقلاب مصر عاد وضع الأنظمة التقليدية للتوازن، ولهذا خفت حدة انفعالها ضد هؤلاء ولهذا سنراها ورأينا بوادر تجدد مد اليد لهم!.. ولهذا سنجد أن ما يجري هو العودة للسياق الطبيعي بالتعاون مع الإخوان، فالمشير عبدالفتاح السيسي يستخدم خطابا إسلامويا لم يستخدمه محمد مرسي شخصيا!
في ذات السياق وجدنا ولي ولي العهد السعودي في تركية مستبقا زيارة رئيسها لطهران، وها هو الأمير القطري الشيخ تميم في الرياض بمعدل أسبوعي!.. وهكذا.. لكن العقل الجمعي للتواصل الاجتماعي لا يمكنه فهم هذا، ولذلك يستمر السب واللعن، فمن اعتاد لعامين على سب قطر يذهله وجود تميم في الرياض!.. فما الذي سيفعله عندما يرى الشيخ تميم في أبو ظبي إو عندما يرى الشيخ محمد بن زايد في الدوحة!؟..
هذا العقل قاصر عن الفهم فيتخيل أن إردوغان يجب أن يلغي زيارته لطهران، فإن فعل ذلك فهو بطل وحليف للسعودية وإلا فهو عميل ويبحث عن مصالحه الخاصة.
هنا يصعب أن تفسر لهذا العقل أن السعودية بما فعلته أخيرا تقوم بوضع حد للتغول الإيراني وهو أمر نتيجته ليست الحرب حتما وإنما التفاهم!.. فالمنطقة تعيش في جوار لن ينتهي، وقيام تعاون يقوم على الاحترام المتبادل لا يمكن أن يتم عبر الاستقواء والهيمنة، كما أن التطرف يولد التطرف، فلا بد من خلق معادلة واحدة تجتث الغلو وتسييس الدين، إذا لا مصلحة لأحد بهذا الاستنزاف للأرواح والمقدرات والاستقرار السياسي والتنموي..
فضلا عن أنه من غير المعقول العيش المشترك في ظل الشتائم!