كتاب سبر

علي المسعودي في رثاء أخيه "حسن".. يكتب:-
النداء الأخير

قبل عام ونيّف، عندما حجزت لأخي حسن المسعودي تذكرة سفر إلى بانكوك .. قلت لموظف مكتب السفريات: اترك موعد الرجوع مفتوحاً!
لم أكن أتوقع يومها أنه لن يستخدم تذكرة العودة تلك، بل سيرحل بتذكرة أخرى إلى جهة مختلفة، في مقعد محجوز له مسبقاً.. من جملة تذاكر سفر محجوزة لنا جميعاً، لرحلات لا نملك إلغاءها أو تأجيلها.. ولا نعرف مكان ولا ساعة  إقلاعها.
والغريب العجيب أننا سنكون حاضرين في الوقت المحدد تماماً لتلك الرحلة، وسنسمع النداء الأخير لدخول بوابة المغادرة، النداء الأخير، النداء الأخير للمسافرين على الرحلة المتجهة إلى البرزخ: (يا أيتها النفس.. ارجعي..).
ستسوقنا الأقدار بسلاسة وخفاء.. لنقف أمام مسؤول الرحلة وهو يضع في وثائقنا ختم السفر، ثم يطويها.. فلا ختم بعد ذلك!
والسعيد من جهز زاد السفر الذي يحتاج إليه، ليكفيه ويغنيه في الرحلة الأخيرة الحتمية.. المكتوبة تفاصيلها في اللوح المحفوظ..
.. لم أكن أعلم أن موعد رحلة أخي، سيحين في وقت مبكر من آمالنا، مع توجس  راودني منذ عدة أشهر من أي اتصال، فما إن أغِب عن هاتفي بسبب عمل أو نوم حتى أهرع إلى الرسائل سائلاً الله اللطف..
وما انتهى الهاجس إلا بصوت أخي أحمد جفّ على حروفه ماء الخبر، وهو يتهدج: ذهب إلى جوار ربه..!
ويا للمفارقة!!
غادر حسن أرض الكويت يوم 23 نوفمبر 2014 في الدرجة الأولى، وعاد جثمانه مشحوناً.. مثل مئات غيره سافروا يبحثون عن حياة.. فعادت أجسادهم مسجّاة باردة ترافقها دموع حرّى.
 
عندما قرأت آخر رسائله: (اللهم إني أحببت لقاءك.. فأحبب لقائي)، اختنقت بعَبرتي، واستحضرت قلمه الرشيق، وخطه الأنيق وهو يكتب بيده اليسرى.. فسارعت أفتح صوره المخزّنة في هاتفي؛ وجهه الهادئ، ابتسامته المضيئة.. ونظراته المعبأة بالكلام الصامت! 
منذ سنوات قرر الهجرة .. لكنه لم يتحمل برد الغربة، فعاد إلى حضن الوطن، ثم سافر من جديد في هجرة العلاج، لنودعه أخيراً حضن الأرض سكناً برزخياً.. راجين أن تحلق روحه عالياً.. في ظل عرش الرحمن.
أقرأ اليوم عشرات الإشادات بشخصه؛ فأطمئنّ لسيرة عطرة تركها في قلوب عرفته، حتى قال عبدالرحمن -ابن اختنا-: “أجمَعت المقالات على حُسن خلقه، وأكثر ما يدخل الناس الجنة: تقوى الله وحسن الخلق”.
وكنت أعرف أنه إنسان جميل، لكنني لم أكن أعرف أنه بكل هذا الجمال!
سافر حسن.. وترك لنا ابنه “يوسف” الذي أسماه حباً بسورة “يوسف” وقد حفظها عن ظهر قلب، ليقول كلما اشتاقه: (إني لأجد ريح يوسف)، و”علي” الذي سمّاه محبة لي، ووفاء لصداقة عُمْرٍ بيني وبينه ترافقنا خلالها في الحياة وفي العمل.. وفي الحزن.. وفي زياراته الخاطفة والكثيرة لبيتي ومكتبي، وفي حكايات جلسات الشاي الطويلة في مع أخويّ محمد وأحمد.. 
وكذلك وردتين ثلاثيّتي الحروف تتقدمهما هاء أشبه بتنهيدة: هند، وهبة.
فجعت بك أيها الغالي، وأصابني سهم فراقك في صميم القلب.. وفطرت كبدي دموعٌ غزيرة كلما سمعت أو قرأت عنك كلام محبيك الذين كتبوا أو حضروا أو هاتفوا..
وعزائي أن عندي تذكرة سفر.. سأرحل بها نحوك يوماً ما، رجاء أن نلتقي في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

تعليق واحد

أضغط هنا لإضافة تعليق