كتاب سبر

المقاطعة.. هل نجحت أم فشلت؟

مضحكة جداً تلك الافتتاحية التي تصدرت أحد أعداد جريدة القبس بعنوان “شاركوا في الانتخابات”. الفكرة في حد ذاتها غير مضحكة، ومن المنطقي جداً أن تنقسم الآراء بعد 4 أعوام من المقاطعة السياسية لمجلس الأمة ما بين داعي للمشاركة وبين مصمم على الاستمرار في المقاطعة كخيار سياسي، لكن المضحك في الأمر كان هو أن الافتتاحية تأتي بعد أسابيع من الرسائل غير المباشرة لذات الجريدة والتي تدفع في اتجاه معاكس ومغاير وهو إبراز دعوات المقاطعة من خلال لقاءات مع سياسيين مثل أحمد السعدون ود. عبيد الوسمي لم تكن لتفسح لهم مساحات الحوار في جريدة القبس لولا إعلانهم المبكر عن مقاطعتهم الانتخابات القادمة!

سواء كانت دعوة القبس في افتتاحيتها جادة أم ذات أهداف غير المعلنة إلا أنها بالفعل طرحت سؤالاً للنقاش يستحق أن نبحث فيه، وهو ليس بالسؤال الجديد إذ يتم طرحه في أغلب النقاشات والحوارات التي تتعلق بالانتخابات القادمة والموقف منها، لكن تصدره لافتتاحية جريدة مثل القبس ينقله من أحاديث المهتمين إلى صدارة نقاشات الرأي العام، والأسباب التي ذهبت إليها الصحيفة في تبرير رأيها بأن “المقاطعة فشلت” تستحق التوقف عندها والتمعن فيها حتى وإن كانت في أجزاء عديدة منها واهية وغير مترابطة. لذلك السؤال الأهم اليوم، هو “بعد مرور أربعة أعوام على المقاطعة السياسية لمجلس الأمة، انتخابا وترشحاً، هل نجحت هذه المقاطعة أم فشلت؟

علينا في البداية أن ننتبه لخطأ يقع فيه الكثيرون هذه الأيام، وهو الربط المباشر بين المقاطعة السابقة لانتخابات مجلس ديسمبر 2012 وانتخابات مجلس 2013، وبين الموقف من الانتخابات المتوقع إقامتها في يوليو 2017. تقييم المقاطعتين السابقتين ونجاحهما من عدمه يتوقف على ما حققته المقاطعة من أهداف سياسية حتى الآن وليس على مواقف القوى السياسية من أي حدث قادم سواء كان انتخابي أو غيره. فهل حققت المقاطعة الأولى والثانية أهدافهما؟ وإلى أي مدى؟ وماذا كانت التكلفة في سبيل تحقيق تلك الأهداف؟

من وجهة نظري الشخصية كمتابع للشأن السياسي عن قرب، أستطيع القول وبكثير من الحيادية والمهنية، أن المقاطعتين قد اختصرتا أعواماً وأعواماً من العمل السياسي الاعتيادي والذي يمارس في القنوات السياسية المعتادة في البلاد. وبصورة أخرى، لو كانت القوى السياسية قد استمرت في عملها السياسي الاعتيادي وهو المعارضة من داخل البرلمان ولجأت للانتخابات بعد صدور مرسوم الصوت الواحد لاحتاجت إلى أعوام وأعوام من العمل السياسي والتوعوي الميداني من أجل الوصول بالشعب إلى هذه المرحلة التي وصل إليها خلال فترة المقاطعتين.

ماذا حققت المقاطعة حتى الآن؟

– قبل المقاطعة، كان الكثير من اللوم يوجه إلى قوى المعارضة وتياراتها السياسية ورموزها ويتم تحميلهم مسؤولية التدهور القائم في جميع مناحي الحياة في البلاد. تراجع الصحة، والتعليم، والإسكان، والفنون، والآداب، والمؤسسات الحكومية، بل وحتى لغة الحوار في الشارع، كانت في نظر كثيرين نتاج لـ “تأزيم المعارضة” وتغولها على الحكومة الضعيفة التي تريد الإصلاح لكنها لا تصل إليه بسبب تلك المعارضة السيئة. وبعد سنوات من المقاطعة وغياب المعارضة و”تأزيمها” أصبح يقيناً لدى أقرب الموالين للسلطة والمدافعين عنها أن المسؤولية تقع على السلطة منفردة وهي المسؤول “الحقيقي” عن هذا التدهور الذي تعيشه البلاد في السنوات الأخيرة.

– قبل المقاطعة، كان الحديث عن ضرورة وحتمية “تطوير السلطة القضائية” أمراً مستهجناً، فقد كانت السلطة القضائية أقرب إلى التقديس لدى الجميع، تيارات وهيئات وأفراد. وبعد المقاطعة، أصبح من شبه المتفق عليه أن تطوير السلطة القضائية أمراً واجباً بما يضمن استقلاليتها وأن تلعب الدور المناط بها من دون أي تبعية إدارية أو مالية لأي سلطة أخرى.

– قبل المقاطعة، كان مجرد ذكر جملة “حكومة منتخبة” في وسط نقاش كفيل بإنهاءه، فمن يريد حكومة يقودها شخص من عامة الشعب يأتي بأبناء عمومته أو طائفته أو عائلته أو حزبه. واليوم، بعد المقاطعة، وإن كان الأمر لا يزال لا يحظى بالإجماع التام، إلا أنه أصبح مقبولاً ومطروحاً للنقاش، ويتم تقبله بأريحية وبشكل اعتيادي ما بين مؤيد ومعارض ومحايد.

– قبل المقاطعة، كانت قضايا الجنسية والمحكمة الإدارية من القضايا الثانوية والتي يمكن تأجيلها، وقد تم تأجيلها مراراً وتكراراً في مجالس سابقة، لكن بعد المقاطعة، والتعسف والانتقائية و”البلطجة” التي تم استخدامها من قبل السلطة في هذا الملف الساخن، أصبح التعامل معه من أول أولويات أي مجلس يحظى بتمثيل شعبي “حقيقي” ومطلب من المطالب الرئيسية لكثيرين من أبناء الشعب.

– قبل المقاطعة، كان الحديث عن تعديلات دستورية إصلاحية يقابل بشعار “إلا الدستور”، وأتفهم جيداً نبل أهداف ومقاصد من رفع مثل هذا الشعار سابقاً انطلاقاً من مبدأ “أقضب مجنونك”، ولكن بعد المقاطعة أصبحت هذه التعديلات مطلب العديد من التيارات السياسية، بل وأصبح لدينا، ولأول مرة في تاريخ الكويت السياسي “خارطة طريق” إصلاحية ممثلة بمشروع ائتلاف المعارضة للإصلاح الدستوري والسياسي والذي وإن لم يكتب له النجاح في الفترة الماضية إلا أنه يعتبر مرجعاً يمكن الرجوع إليه في أي وقت لتحديد ملامح أي تعديلات دستورية مستحقة في المستقبل.

يبقى السؤال الآن، وما هي التكلفة التي دفعتها الكويت والشعب الكويتي في سبيل نيل تلك المكاسب؟

مما لا شك فيه أن اثماناً قد تم دفعها خلال فترة المقاطعتين ولا يزال البعض منا حتى هذا اليوم يدفع الثمن من حريته أو صحته أو مواطنته أو حقوقه الدستورية والشرعية المكتسبة. فهناك من يقبع خلف قضبان السجن دفاعاً عن هذه المكتسبات التي تم تحقيقها، وهنالك من جرد من مواطنته وهنالك من نفي خارج البلاد، وهنالك من هاجر مختاراً، وهنالك من حورب في وظيفته، وغير ذلك من الضرر الذي أحدثته السلطة في سبيل فرض هيمنتها على شعب رفض ولا يزال الانفراد في القرار السياسي. ومن المؤكد أن لكل نجاح ضريبة، ولكل نضال شعبي تكلفته التي تُدفع، ويبقى الأمل أن تكون المكاسب في الميزان التاريخي للشعب أثقل وزناً من الأضرار والتكلفة.

تبقى للنقاش سؤال يجب أن يطرح بشكل منفصل عن سؤال هذا المقال، وماذا عن المقاطعة القادمة؟ جواب هذا السؤال نتركه لمقال قادم بإذن الله تعالى.