كتاب سبر

مراجعات راشد الغنوشي.. مصر و القومية (1)

المقال الأول ضمن سلسلة مقالات يكتبها الزميل مبارك الجري تتناول مراجعات راشد الغنوشي وسوف تنشر تباعاً في سبر

من جامعة الزيتونة – الثانوية – تبلور فكر الشيخ راشد الغنوشي تبلوراً فلسفياً ناقداً لما هو قديم و غير مرتبط في تطورات الواقع . وفي عام 1963م ، عُين الغنوشي معلماً في قرية ( قصر قفصة ) ، ويذكر أن قبوله في هذه الوظيفة كان الهدف منه جمع المال لإكمال دراسته خارج تونس ، لأن الميدان الوحيد المفتوح أمامه في ذلك الوقت هو التعليم الديني . وهنا يتضح أن بداية نشأته لم تكن قابلة للتعليم الديني ، بل كان رافضة لها ، لأنه أثناء تتلمذه في جامعة الزيتونة وجد أن أساليب المشايخ في التعليم قديمة ولا تساعد على بناء عقل تحليلي قادر على الإجابة عن القضايا المعاصرة و إشكالاتها .

سافر راشد الغنوشي إلى مصر في عام 1964م ، لأجل مواصلة الدراسة الجامعية ، ولكنه واجه صعوبة في القبول بداية الأمر لأن السياسة البورقيبية كانت ضد و رافضة لفكرة التعليم المشرقي ، وكانت السفارة التونسية تلاحق الطلاب التوانسة لإعادتهم إلى تونس . استثمر هؤلاء الطلاب و على رأسهم راشد الغنوشي الخلاف والخصومة السياسية بين الحبيب بورقيبة و جمال عبدالناصر ، وتظاهروا أمام منزل عبدالناصر حتى تم قبولهم في الجامعات المصرية . و التحق الغنوشي بكلية الزراعة في جامعة القاهرة واستمر فيها لمدة ثلاث شهور ، و سبب اختياره لهذا التخصص يعود إلى طبيعة عمل أسرته التي امتهنت الفلاحة و اعتمدت على انتاجها الزراعي كمدخل مالي وحيد لها . والجدير بالملاحظة أن المسألة الإسلامية السياسية لم تكن حاضرة في إهتمامات الغنوشي الفكرية ، ولم يذكر أنه تعاطف في هذه الفترة مع الإسلام السياسي في مصر ، ونخص بالذكر جماعة الإخوان المسلمين التي اصدمت بسياسات عبدالناصر .
كان الغنوشي قومياً ، ويرى في جمال عبدالناصر قدوة عربية و سياسية ، ولعل ذلك يعود إلى وضع تونس في الحقبة البورقيبية التي تفرنس بها التعليم و الثقافة ، و الفرنسة مرتكز أساسي في مشروع بورقيبة التحديثي الذي عرفته تونس بعد إستقلالها عام 1956م ، وقد أثر الفكر الفرانكفوني على المجتمع التونسي وسيطر على مفاصل الإنتاج الثقافي المحلي . ويمكن اعتبار طبيعة المشروع البورقيبي – التغريبي – مدخلاً مهماً لتغلغل وتأثير الفكر المشرقي – وخاصةً الناصري – على عدد كبير من الشعب التونسي .
ومن سوء حظ الغنوشي و زملائه أن الخصومة السياسية بين بورقيبة و عبدالناصر انتهت بعد تصالحهما . واستجاب النظام المصري طلب السفارة التونسية في فصل الطلبة التونسيين وإجبارهم على العودة إلى تونس ، ويذكر الغنوشي أن قرار الفصل صدر من جمال عبدالناصر ، وهذا ما أثار لديه عدة تساؤلات حول الزعيم العربي : كيف يمكن لعبدالناصر أن ينشغل في هذه الجزئيات و يرتكب هذا الجرم في حق طلاب علم ؟
ويمكن إعتبار موقف عبدالناصر من الطلبة التونسيين بداية التغيير لدى راشد الغنوشي – كما سنرى في المقالات القادمة – ، لأنه لم يعد في إمكانه الإستمرار في مصر بعد فصله من جامعة القاهرة و مطادرته من السفارة التونسية ، وهذا ما دفعه إلى السفر إلى سوريا هرباً من العودة الإجبارية إلى تونس لمواصلة تعليمه الجامعي .