كتاب سبر

زنزانة 16.. الخيال و نسجه

هناك العديد من التجارب والقصص التي تناولت السجون من الداخل سواء في الروايات التي يطلق عليها (أدب السجون) : كرواية تلك العتمة الباهرة لطاهر بن جلون ، وشرق المتوسط لعبدالرحمن منيف ، والسجينة لمليكة أوفقير… الخ ، أو في المقابلات التلفزيونية و البرامج الحوارية : ( كمقابلة أحمد المرزوقي ) الشهيرة عبر قناة الجزيرة التي تحدث فيها عن تجربته في معتقل تزممارت ، والتي سجلت نسبة كبيرة من عدد المشاهدين و المتفاعلين في آن واحد . وفي هذه الروايات سواء كانت واقعية أو خيالية عدة رسائل مباشرة و متنوعة ، وأهداف سياسية و إجتماعية و فكرية ، وإدراك هذه الأمور يحتاج منا كقراء أن نهضم هذه التجارب هضماً عقلياً بعيداً عن العاطفة التي قد تدفع البعض إلى قدح السجين حتى و إن كان شريفاً !!!

في زنزانة رقم ( 16 ) انطلقت أفكار السجين رقم ( 56 ) ، وتجاوزت مساحة هذا السجن الضخم بسجانيه ومراقبيه ومسؤوليه و عنابره لتصل إلى الألاف من الناس الذين يعيشون خارج أسوار هذا المبنى . و وجدت أن من الضرورة تدخل الخيال لكتابة و نسج أفكار هذا السجين وبلورتها لقارئ هذا المقال . ولعل الخيال الذي يعتمد عليه هذا المقال قد يتشارك معي فيه العديد ممن لديهم إهتمام و إطلاع على مخرجات أدب السجون !!
لا يوجد سجن أو معتقل مهما بلغ حجمه و ضخامة جدرانه و قوة حراسته أن يمنع إنتشار الأفكار و تأثيرها على أي مجتمع كان . فالكلمة التي تخرج من عقل مستنير و شخص مدرك لحالة وطنه و محب لمجتمعه ستؤثر في حينها على عدد كبير من البشر لأن محبين الأوطان كثر . وهنا نتحدث عن حالة السجين رقم 56 ، وكيف تبنى فكره عدد كبير من المجتمع . ففي السجون الأجساد مقيدة والأفكار تتحرك متى ما كانت حرة وغير مأمورة أو مأجورة ! ومن هنا تنتقل الأفكار من حالة السكون إلى حالة التأثير المجتمعي . وفي هذه الحالة لا يمكن تحديد من سيتأثر بها ، لأن الفكرة قد تؤثر أحيانا في السجان نفسه ! وعندها تصدق حرية الفكرة وقيمتها و معناها و هدفها الوطني ، أو الإصلاحي ، أو الإيجابي … الخ
و في الزنزانة رقم 16 ، جرى حوارا هاما ما بين السجان و السجين رقم 56 حول أسباب سجنه و قوة تحمله و ابتسامته التي لم تفارقه منذ أول يوم له في السجن ، وحول عدد الزاور الكبير الذي لم يقل بخلاف السجناء الآخرين . فأجابه السجين رقم 56 بإختصار : (( إنها ضريبة الحرية التي شكلت فكري و استوطنت في خطابي ، والتي حملتها كأمانة لسنوات عديدة، وعندما رفضت إسقاطها من عاتقي جيء بي إلى هذا المكان ، ولكنني مازلت أحملها بطريقة أخرى أستطعت من خلالها تكوين فكرة خلف قضبان هذه الزنزانة أشاركها الآن مع من حملني إياها. وهذه الفكرة ترتكز على رابط يجمع عدد من العقليات التي رسمتها الحرية ، والتي ساهمت في إنتاج اللغة التي أتحدث بها الآن ، هذه هي الفكرة التي جمعتني مع من هو في الخارج في أرضية واحدة دون أي تنسيق أو تآمر أو أجندات عابثة. والقصد من الأرضية المشتركة ليس بمعناها الجغرافي بل بمعناها الفكري الذي يتواصل من خلاله عدد كبير من الذين يؤمنون بفكرة ما ، فالفكرة الهادفة و الحضارية هي التي تنتج إستقرار الأمم دون تواصل مباشر )) .
لقد كانت لهذه الكلمات أثرها على السجان الذي كان يتعامل مع السجناء بشدة وقسوة مصطنعة ، لأنه يشرف على رقابة حالات متنوعة وخطيرة ، كتجار المخدرات ، و القتلة ، و الإرهاب ، وهتك العرض . ولكن بعد ما انتهى من حواره مع السجين رقم 56 ، أثقلت تفكيره عدة تساؤلات : ما هو نوع الجريمة التي ارتكبها هذا السجين ؟ و كيف يمكن التعامل معه ؟ وهل يمكن اعتبار الحفاظ على الأمانة جريمة ؟ واذا كان هذا السجين مجرماً فكيف يتبنى أفكاره عدد كبير من المجتمع بتنوعه ؟ و إذا أثرت بي هذه الأفكار ، فهل أُعتبر مجرماً .. كيف و أنا السجان ؟ !