محمد فاروق الامام
كتاب سبر

رجالات سورية
الزعيم السياسي السوري فارس الخوري

ولد فارس الخوري في العام 1873م في قرية الكفيْر اللبنانية، وأمضى مدة دراسته الابتدائية في مدرسة للقرية كان المرسَلون الأمريكيون قد أسسوها. ثم تابع تعليمه في مدرسة مشابهة لها في صيدا في العام 1887م وأقام في هذه المدرسة ثلاث سنوات.

تابع دراسته في الجامعة الأمريكية، المسماة بـ”الكلِّية الإنجيلية السورية” وقتذاك، حاصلاً منها بتفوق على شهادة بكالوريوس في العلوم (الجدير بالذكر أن هذه الشهادة كانت شهادة ثقافة عامة). درَّس سنتين اللغة العربية والرياضيات في الجامعة الأمريكية، واستقال منها ليعمل مع يعقوب صرُّوف في مجلة المقتطف. سافر إلى دمشق، وشاءت الظروف أن يُمنَع من السفر منها بسبب انتشار الوباء، فقرر الإقامة فيها. دُعِيَ للعمل في إدارة المدارس الأرثوذكسية في دمشق والتدريس فيها. وإلى جانب ذلك، كان يعطي دروسًا في “مكتب عنبر”. انتقل بعد ذلك ليعمل في القنصلية البريطانية في العام 1902م، واستمر في عمله في القنصلية حتى إعلان الدستور في الدولة العثمانية في العام 1908م. وفي تلك الفترة درس دراسةً ذاتيةً اللغتين التركية والفرنسية.

كانت الفرنسية شائعة في الأوساط الدمشقية التي كان يتردد إليها، وخاصة في أوساط باب توما المسيحية. وعندما كان يُعرَف أنه سيزور بيتًا، كان ذلك البيت يملأه الزائرون والزائرات، وتلتف حوله الأوانس والعقائل، وأكثر محادثاتهن بالفرنسية.

وحدث أنْ انقطع مدةً من الزمن عن المجتمعات العائلية، وكَثُرَ التساؤلُ عنه وعن أسباب غيابه. وبعد بضعة أسابيع، يعود ويفاجئ جلساءه، مشاركًا إيَّاهم استعمال اللغة الفرنسية.

دخل جمعية “الاتحاد والترقِّي”. وعندما اتضحت نوايا الاتحاديين الأتراك، انسحب منها في العام 1912م. رشَّح نفسه لـ”مجلس المبعوثان” (البرلمان العثماني). وعلى الرغم من مقاومة الاتحاديين له، فاز بأكثرية كبيرة من الأصوات. وفي كلماته في المجلس، وفي قصائد شهيرة له في بعض المناسبات، كانت تبرز نزعتُه القوميةُ التحررية. وقد أبرز المصدر المشار إليه شواهدَ واضحةً عن جرأته وقوة حجته وتصدِّيه لأقطاب الاتحاديين، مثل طلعت وأجاويد.

وخلال إقامته في اسطنبول، كان يحضِّر لنيل إجازة من “معهد الحقوق” لم يحصل عليها، إذ اعتقلتْه السلطاتُ التركية في صيف 1916م، وبدأت محاكمته التي سيأتي الحديث عنها.

هذا الحقوقي غير المأذون، أصبح أستاذًا في معهد حقوق دمشق، ونقيبًا للمحامين فيها، وعضوًا في لجنة الحقوق الدولية التابعة لهيئة الأمم المتحدة.

سعى فارس الخوري، من خلال عضويته في مجلس المبعوثان وعلاقاته الواسعة في اسطنبول، وبحصوله على توصيات شفهية من بعض أقطاب الدولة العثمانية، للتدخل لدى جمال باشا لصالح الوطنيين العرب – ومنهم مَن كانوا يحاكَمون في عاليه – فقابله من أجل ذلك في ربيع العام 1916م. ولكنه اعتُقِلَ بعد أسابيع قليلة، وقدِّم للمحاكمة بتهمة التآمر على أمن الدولة. وكانت النتيجة أنه كاد أن يلتحق بِمَن أُعدِمَ منهم في 6 أيار من ذلك العام.

لقد تضافرت عوامل عدة لإنقاذ فارس من حبل المشنقة، منها تهديد فيصل الأول لجمال باشا في شأنه وفي شأن الموقوفين العرب – وكانت قد بدأت الثورة العربية الكبرى، ووقع عددٌ من الضباط الأتراك أسرى في قبضتها. ومن عوامل إنقاذه أيضًا براعته في الدفاع عن نفسه أمام المحكمة، حتى إنه اتُّهِمَ بتنويم الشهود مغناطيسيًّا!

كذلك مُنِعَ من النظر إلى وجه الشاهد لأن نظراته ساحرة، تؤثر فيه تأثير التنويم المغناطيسي. فقال باسمًا: “أتخيفه نظراتي أكثر مما تخيفه سجونُكم وجنودُكم وجلاَّدوكم وسياطُكم؟

بعد نهاية المحكمة وإعلان براءته من التهمة، أمره جمال باشا بالخروج من منطقة الجيش الرابع. فغادر إلى اسطنبول، ليعود منها في 24 أيلول 1918م ويشارك في 30 منه، بعد خروج الأتراك، مع شكري الأيوبي والأمير سعيد الجزائري وعدد من الشخصيات الوطنية، في رفع العلم العربي على دار الحكومة في دمشق.

ومع فيصل الأول، أصبح فارس الخوري عضوًا في “مجلس الشورى” الذي اقترح عليه إنشاءه. وفي أول حكومة مدنية بعد الاستقلال عن الدولة العثمانية (شكَّلها رضا باشا الركابي) عُهِدَ إليه بوزارة المالية.

ليس من الصعب تصور عمق الخيبة أو المرارة التي شعر بها فيصل ومَن كان يقاتل معه، وخاصة أولئك الضباط الذين تركوا الجيش العثماني على أمل تحرير وطنهم وأهلهم من الكابوس الطويل المرعب، فإذا بهم يقبضون على تراب، وإذا بالآمال تتحول إلى سراب! وكانت تتكشف بسرعة النوايا المخادعة لحلفاء الأمس القريب.

كان فيصل يتنقل بين دمشق وعواصم القرار في أوروبا، تدارُكًا لبقيةٍ من استقلال. حضر مؤتمر الصلح، وراوده بعض الأمل من كلام ولسون، الرئيس الأمريكي، و”إعلانه”. غادر مرة أخرى دمشق في 13 أيلول 1919م قاصدًا باريس، ووضع أسُس الاتفاق مع كليمنصو، وكان مقتنعًا بأن فرنسا لن تعطيه أكثر. إذ ذاك، عرض مشروع الاتفاق على رجالات البلاد، فرفضوه؛ فوافق، وهو متوجسٌ من تطور الأوضاع، على قرار “المؤتمر السوري” الذي اتخذه في 7 آذار 1920م بإعلان الاستقلال وتنصيب فيصل ملكًا على سورية.

في هذه الظروف، يتحدث فيصل إلى فارس الخوري بأمر الاستقلال والمبايعة له بالملكية، فيجيبه فارس: “هذه أمنية كلِّ سوري، إنما يجب الاعتماد على تأييد دولة كبرى على الأقل.” وعندما سُئِل عمَّا إذا كانوا استشاروا الإنكليز بالأمر قبل إعلان الملكية، أجاب فارس: “خاطبناهم بذلك فقالوا: نحن لا نقاومكم، ولكن الأمر على مسئوليتكم”.

عمد فيصل، بعد أن أثار موقفُ المؤتمر السوري حلفاءَ الأمس – وكانوا يعتبرونه مجرد قائد للقوات المتعاونة معهم، وأبلغوه مقررات مؤتمر سان ريمو (20 نيسان 1920م) التي كرَّست الانتداب – عمد إلى تشكيل حكومة جديدة برئاسة هاشم الأتاسي.

في 18 أيار 1920م، واجهت الحكومةُ المؤتمرَ السوري في جوٍّ عاصف بالتوتر. وقد طلب فريق من النواب أن تُسمَّى الوزارة وزارة دفاعية. وتقرر ذلك في المؤتمر. تبع ذلك إنذارُ غورو. استدعى فيصل المجلس العسكري.

والجواب بعد ربع ساعة من اجتماعه: “إن في إمكان الجيش أن يقاوم بضع ساعات إذا كانت المعركة غير جدِّية، وإذا كان القتال حاميًا فلا يستطيع أن يصمد خمس دقائق.” جواب المجلس العسكري حمل فيصل وأركان حكومته على قبول الإنذار. ذهب وزير الدفاع يوسف العظمة على رأس بقايا الجيش المنحل. تدفق الناس على محطة سكة الحديد لتنقلهم إلى مواقع القتال، وكان بعضهم لا يحمل سلاحًا ولا زادًا، ومنهم مَن سار إلى ميسلون مشيًا على الأقدام، تدفعهم حماستُهم إلى السير على غير هدى، فكانت كثرتهم تعيق تقدم القوات المتجهة صوب ميسلون.

توجَّه فيصل وأعضاءُ حكومته ونواب المؤتمر السوري نحو الكسوة، لم يتخلَّف سوى فارس الخوري وعلاء الدين الدروبي. تصل برقية لفيصل، مشجِّعة على العودة إلى دمشق، من نوري السعيد. يعود، وإذ يلمس علاقةً طيِّبة بين الدروبي والفرنسيين، يكلِّفه تشكيل وزارة من عناصر قريبة للتفاهم مع المنتدَبين الجُدُد. شُكِّلتِ الوزارة وعُهِدَ إلى الخورى فيها بوزارة المالية.

بعد أسبوعين من دخول الفرنسيين دمشق، في 8 آب 1920، أقيمت مأدبةٌ في قصر المهاجرين – القصر الجمهوري الحالي – حضرها وزراءُ ثاني حكومة شكَّلها الفيصليون وعددٌ كبير من وجهاء المدينة. أخذ “غورو” القائد الفرنسي يمتدح منظر دمشق وغوطتها أثناء الطعام، ثم أجال نظره في القاعة التي هم فيها، وكأنه أراد التهكم والاستخفاف بالملك فيصل فقال: “أهذا هو القصر الذي سكنه فيصل؟” فأجابه فارس: “نعم، يا صاحب الفخامة، هذا هو القصر الذي سكنه الملك فيصل، وقد بناه والٍ عثماني اسمه ناظم باشا، ثم حلَّ فيه جمال باشا، ثم الجنرال “اللنبي”، والآن تحلُّونه فخامتكم. وجميع مَن ذكرتُهم أكلنا معهم في نفس القاعة، وكلهم رحلوا، وبقي القصر وبقينا نحن.” سمع الجنرال “غورو” هذه العبارة فصمت، ووجم كلُّ مَن كان حول المائدة، ولم ينطق أحد حتى انتهاء المأدبة. وكان الشيخ تاج الدين الحسني حاضرًا، فقال لفارس بعد الحفلة: “منذ هذا اليوم انتحرت، ولن تقوم لك قائمة مع الفرنسيين.” فيجيب فارس: “وأنا أيضًا لم أرغب أن تقوم لي قائمة، وإنما هي معركة ولن تنتهي حتى يرحلوا”.

منذ ذلك الحين، لم يشغل فارس رئاسةً أو وزارة حتى معاهدة 1936م، باستثناء فترة شهر ونيف عام 1926م، كما سنرى.

من مساهماته الوطنية في تلك الفترة – خارج نطاق السياسة المباشرة – مشاركتُه في السعي لتأسيس “المجمع العلمي العربي” بدمشق، وأيضًا تأسيس “معهد الحقوق”، الذي عمل فيه أستاذًا منذ العام 1919م، وألَّف له كتابيه في علم المالية وفي أصول المحاكمات، كما وضع كتاب صكِّ الجزاء. وقد أوجد في هذه الكتب المصطلحات العربية المناسبة، حتى أصبحت مراجع هامة في دراسة الحقوق باللغة العربية. ومنذ العام 1920م، عمل مشاورًا حقوقيًّا لبلدية دمشق.

فكَّر الفرنسيون في العام 1921م في مشروع جرِّ المياه إلى مدينة دمشق من عين الفيجة – إذ كان سكان دمشق يشربون من مياه بردى وفروعه، وكان ذلك يتسبب لهم بكثير من الأذى الصحِّي – واقترح رجالُ السلطة الفرنسية إعطاء امتياز هذا المشروع لشركة فرنسية.

وعندما استشار رئيسُ البلدية فارس الخوري بالأمر، وقف هذا ضدَّ الاقتراح؛ إذ تبيَّن له أن شروط الامتياز سوف تضر بمصلحة السكان، مما أغضب المستشار الفرنسي كثيرًا. وبعد مدة، اجتمعت لجنةٌ من تجار دمشق وأغنيائها، ورغبت في تأسيس شركة تجارية لتوزيع المياه، فعارض فارس ذلك معارضة شديدة. لذلك أسرع في اليوم التالي وعرض على اللجنة مشروعًا وطنيًّا لجرِّ المياه على أساس تمليك الماء للمباني، حيث يصبح من الحقوق الأساسية في العقار.

قاوم الفرنسيون هذا المسعى، لكنه نجح أخيرًا. ودُشِّن المشروع في 3 آب عام 1932م باحتفال رائع. وهكذا أصبحت “شركة مياه عين الفيجة” مفخرةً من مفاخر الجهود الوطنية في سورية.

في أوائل العام 1925م، تداعى عددٌ من الرجال الوطنيين لتنسيق نضالهم السياسي في إطار حزبي منظَّم، فتشكل “حزب الشعب” برئاسة عبد الرحمن الشهبندر. وكان فارس الخوري نائبًا لرئيس الحزب وواضع نظامه.
كان فارس متقدِّمًا في الماسونية، وكان يحضر المؤتمر الماسوني العام في زحلة عندما بدأت الثورة السورية. وبما أن الدكتور الشهبندر الذي شارك في الثورة هو رئيس حزب الشعب، فقد حكموا بمعاقبة شخصيات الحزب ونفوهم إلى أرواد، ومنهم فارس الذي قضى هناك 76 يومًا، بينما حكموا على الشهبندر بالإعدام، فاختفى واستقرَّ بعد ذلك في مصر.

نظرًا لاتساع مدى الثورة وانتقالها لمناطق متعددة ولعجز قوات الانتداب عن قمعها بوسائل العنف، كضرب دمشق بالمدفعية وهدم قسم من أبنيتها، سحبت فرنسا جنرالها ساراي وأرسلت دي جوفينيل، وهو أول مفوَّض سامٍ مدني. حاول هذا كسب رضا الناس، فاجتمع بوفود وشخصيات وطنية بهدف عقد معاهدة وصياغة دستور جديد. وتشكَّلتْ لهذا الغرض حكومةٌ وطنية برئاسة الداماد أحمد نامي باشا، كان فيها فارس وزيرًا للمعارف. لم تعمِّر هذه الحكومة سوى شهر ونيف؛ فقد استقال هو وعدد من وزرائها.

بعد أن قامت السلطة الفرنسية بهجوم وحشي على حيِّ الميدان، واشتركت المدفعية والطائرات بقصف الحي. وارتكب الجنود الشراكس والسنغاليون الفظائع بحق أهل الحي، وأحرقوا البيوت على طول 650 مترًا. وعندما رأى الوزراء الوطنيون الثلاثة، فارس الخوري ولطفي الحفار وحسني البرازي، ما فعله الفرنسيون في الميدان ومضيَّهم في سلخ الأقضية الأربعة عن سورية وضمِّها إلى لبنان، إضافةً إلى رفض الحكومة الفرنسية للاتفاق الذي عقدوه مع المفوض السامي بشأن المعاهدة والدستور، طلبوا من رئيس الحكومة أن يحدد موقفه، فاختار ألا يكون معهم، فاستقالوا من مناصبهم. وقبضت السلطات الفرنسية عليهم، ونفتْهم إلى الحسكة.

وعندما أُلغي قرار الإبعاد، وفي الاحتفال الذي أعدَّه لهم ألوف المستقبلين في 24 شباط 1928م، أنشد فارس الخوري قصيدةً خَتَمَها بقوله:

وها قد دنا يومُ الموازين عندنا وكل يمين قد أتت بكتابها وما كانت الأفعال ذاهبة سدى وكل يد مسؤولة عن حسابها.

لم تَنْسَ سلطةُ الانتداب لفارس مواقفَه، فحرمتْه من الترشح للمجلس التأسيسي، الذي قرر إجراء انتخاباته في آذار 1928م؛ إذ قامت بسنِّ قانون يتم توزيعُ النواب فيه على أساس طائفي، ولم تخصِّص أيَّ مقعد لطائفته الإنجيلية القليلة العدد. وكان الوطنيون أجمعوا على دخول الانتخابات، وبدؤوا باستخدام سياسة المراحل، بعد أن كانوا يعملون بشعار: “لا مفاوضة قبل الجلاء” الذي كان يحمل لواءه الزعيم إبراهيم هنانو. وبدأت الجمعية التأسيسية بوضع الدستور، وأسرعت في وضعه، تحسُّبًا لإمكانية حلِّها من قبل سلطة الانتداب. وهنا أثار المفوض السامي أزمةَ المواد الستة، ورفضت الجمعيةُ حذفَها. فعلَّق اجتماعاتِها، ثم حلَّها فيما بعد.

وفي 15 شباط 1936م، صدر عن المفوض السامي قرارٌ بفصل فارس الخوري وأخيه فائز من وظيفتيهما في التدريس في معهد الحقوق بتهمة “إثارة وتغذية حركة اضطراب سياسي مُضرَّة بصورة خاصة بشبيبة الجامعة”.

وبين هذين التاريخين – تاريخ الانتخابات التي حُرِمَ من عضويتها فارس وتاريخ فصله من التدريس – تشكَّلتْ “الكتلة الوطنية” التي قادت النضال، في جانبه الأعم، لتحقيق الجلاء، وكان هو واحدًا من مؤسِّسيها ومن مجلس قيادتها.

اتخذ الوطنيون المجتمعون في حمص قرارًا بإنشاء الكتلة الوطنية. لقد كان قادة الكتلة يتقدمون الصفوف، ويسيرون في مقدمة المواكب والمظاهرات. وقد كانت المشاهد على هذه الميِّزة كثيرة، وأحدها: عندما قام مكرم عبيد، أمين سرِّ الوفد المصري، بزيارة دمشق، استقبلتْه العاصمة استقبالاً رائعًا، واستاءت سلطةُ الانتداب من ذلك. وأصدر المفوض السامي قرارًا بإبعاد مكرم عبيد وقمع المظاهرات. ولما قوبل هذا القرار بالاحتجاج العملي، بقيام مظاهرة كبرى سار في مقدمتها جميل مردم بك وفارس الخوري ولطفي الحفار ورفاقهم، كان أول مَن جُرِحَ هؤلاء القادة. على هذا النحو كان الوطنيون يتقدمون الصفوف، ويتلقون الضربات الأولى. ولهذا تعلَّق الشعب بهم وسار وراءهم في أشد الميادين خطورة.

في تشرين الثاني 1936م، أصدرت حكومة عطا الأيوبي مرسومًا يقضي بإجراء الانتخابات النيابية. وبمرسوم آخر، تحدَّد عدد نواب المناطق الانتخابية وتوزيعهم على طوائف البلاد، واستُحْدِثَ مقعدٌ عن الطوائف الصغرى، غير الممثَّلة في المجالس السابقة، وهو الذي سيشغله فارس الخوري في هذه الانتخابات. حاز على أعلى الأصوات في دمشق، ثم انتُخِب، بالإجماع تقريبًا، رئيسًا للمجلس (81 صوتًا من أصل 82 وورقة بيضاء). في تلك الفترة، ذهب إلى باريس مشاركًا في الوفد المفاوض على المعاهدة مع فرنسا، المعروفة بمعاهدة عام 1936م. تحركت المفاوضات بسرعة أكثر إلى الأمام على إثر فوز الجبهة اليسارية في فرنسا، ولكن لأسباب أخرى متعددة، منها اضطراب الجوِّ السياسي في فرنسا، وفي سورية أيضًا، ما يتصل بتعقد العلاقات الأوربية البينية وبشعور بعض الساسة الفرنسيين من خطر تراخي قبضتهم خارج فرنسا بينما نذير الحرب مع ألمانيا يلوح في الأفق، أو ما يتصل بتعقد العلاقات السورية – اللبنانية والسورية مع فرنسا في ظلِّ الصراع على الأقضية الأربعة المنوي ضمها إلى لبنان وإنشاء “دولة لبنان الكبير”، وما رافق ذلك من بعض التوترات الطائفية، عالجتْها الكتلةُ الوطنيةُ في سورية وحكومتها بحكمة وحزم يستحقان الإعجاب. لقد انعكست هذه الأجواء سلبًا على جوِّ التفاوض وعلى الشروط التي وضعها الفرنسيون، ومن ثمَّ على تراجُع الفرنسيين عن المعاهدة فيما بعد.

رجع الوفد من فرنسا يحمل في جعبته معاهدةً محكومةً – ككلِّ المعاهدات – بالظروف المحيطة، وتوازُنات القوى عند مَن ساهم في تحقيقها، واختلاف النظرة إلى الأمور، وأحيانًا المصالح، عندهم وعند المعنيين بها، قادةً ومجموعات، وبدأت مماطلة الفرنسيين بإبرام المعاهدة. أما البرلمان السوري، برئاسة فارس الخوري، فقد صوَّت على المعاهدة.

كان الدكتور (الطبيب) عبد الرحمن الشهبندر، الشخصية اللامعة والمحبوبة جدًّا من أوساط الشعب، الذي عاش في منفاه حتى العام 1937م، قد عاد، وكان وقتذاك “يعارض الكتلة الوطنية لعدم الاعتقاد بسياسة التعاون مع فرنسا.

تعرضت سيادة الكتلة الوطنية للخطر تعرضًا قويًّا في العام 1937. فعدم أهليتها من ناحية إدارية، وعودة الزعماء الوطنيين العديدين من المنفى سريعًا، زادتا من انقسام القوى داخل الكتلة. وسرعان ما اتُهِّم جميل مردم بالضعف، وشرع خصومُه يشكِّلون جبهةً وطنيةً يقودها العجلاني، حرَّكتْ مظاهراتٍ معاديةً للحكومة، مما أرغم مردم على الاستقالة.

في حين راح الشهبندر، في خطبه التي يلقيها كلَّ يوم، يُلهِب المشاعر ويفتح الآذان على عورات المعاهدة وعيوبها، فتزداد النقمةُ على موقِّعيها وتشتد المطالبةُ بإلغائها. وأما الحكومة الوطنية، برئاسة مردم، فقد استمرت في محاولة الدفاع عن المعاهدة وفي اتهام المعارضة بالتخريب. وفي تلك الفترة بالذات، نقلت وكالاتُ الأنباء ما تمَّ الاتفاق عليه في عصبة الأمم بين فرنسا وتركيا على سلخ لواء إسكندرون وموافقة عصبة الأمم على ذلك. فعمَّت البلادَ موجةٌ عارمة من الاستياء والاستنكار زادت الموقف تأزُّمًا، واتُّهِمَت الحكومة بضعف موقفها من قضية اللواء. وعندما اشتد الصراع بين الكتلة ومعارضيها، وحدثت اعتقالات بين صفوف المعارضين، اهتم الرئيس، الأتاسي، بما وصل إليه من احتجاجات، فنصح للحكومة بأن تتذرع بالحكمة وأن تقلع عن سياسة الشدة مع عناصر لها تاريخها وجهادها. وقد تسرَّب للمعارضة أن كلاًّ من فارس وفائز الخوري وآخرين من الزعماء المعتدلين شاركوا الرئيس بنصح الحكومة.

عندما تنكَّرت فرنسا لمعاهدة 1936، ومضت سنتان دون تصديق الحكومة الفرنسية عليها، وتعقدت الأوضاع الداخلية في البلاد أدت إلى انقسام حاد أوجد شرخاً كبيراً في المجتمع السوري حول هذه المعاهدة، وكان الجميع يشعر بالعجز والإحباط نتيجة التطورات المؤلمة في قضية لواء إسكندرون، وبعضهم يتهم الحكومة بالضعف والتقصير في التصدي لهذه القضية، واستقالت حكومةُ جميل مردم، وتشكلت على التتابع وزارتان، ما لبثتا أن استقالتا؛ وبعد ذلك استقال رئيس الجمهورية الأتاسي. حاول فارس الخوري – وكان رئيسًا للبرلمان – جهده الإبقاءَ على استمرارية الحياة الدستورية. لكن المندوب السامي، مستغلاً الاستقالات، أصرَّ على حلِّ البرلمان في 8 تموز 1939م.

ودخلت البلاد، والعالم كلُّه، بعد وقت قصير، في جوِّ الحرب العالمية الثانية. ويحكم الفيشيون، المستسلمون لألمانيا النازية والمتعاونون معها، فرنسا، ومعها سورية. وبقيت البلاد دون حياة دستورية حتى دخول “قوات فرنسا الحرة” سورية وإعلان الجنرال كاترو إنهاء الانتداب عليها. وقد استؤنفت الحياةُ الدستورية، فعليًّا، في صيف 1943م، وعاد فارس ليرأس المجلس النيابي المنتخَب حديثًا، حتى تشكيله لأول وزارة له، بإلحاح عليه من رئيس الجمهورية، في 14 تشرين أول 1944، وكان عمره وقتذاك 72 عامًا.

منذ ذلك التاريخ وحتى أواسط الخمسينات، شكَّل فارس أربع وزارات، وقضى شطرًا كبيرًا من هذه المدة في رئاسة المجلس النيابي، ولعب دورًا رئيسيًّا في تمثيل سورية في الهيئات الدولية. ومعروف كم كانت هذه الفترة معقَّدة ومركبة في حياة سورية: فيها حصل الاستقلال، وفيها حدثت نكبة فلسطين، وفيها بدأت تتغير صور الحياة في سورية، خاصة السياسية منها، وفيها بدأت تتغير الموازينُ على الصعيد الدولي تغيرًا عاصفًا.

في كانون ثاني 1945م، أي بعد ثلاثة أشهر من استلام فارس للوزارة، وصل عدد الدول المعترفة باستقلال سورية إلى 13 دولة. وما كاد يسمع بتوجيه دعوة إلى عدد من الدول العربية المستقلة إلى حضور مؤتمر الصلح، الذي كان قد بدأ التحضير له مع نهاية الحرب، حتى سارع إلى رئيس الجمهورية، شكري القوتلي، وعرض عليه رأيه بإعلان الحرب على دول المحور، وذلك من أجل الحصول لسورية على دعوة لحضور المؤتمر، وتمهيدًا لدخولها منظمة الأمم المتحدة. وبعد تردد من القوتلي، اتفق الاثنان على ذلك، وتم التنسيق مع الحكومة اللبنانية على إعلان الحرب في وقت واحد. شارك فارس في الاجتماعات التي حضَّرت، ومن ثم أقرَّتْ، تأسيس “الجامعة العربية” في 22 آذار 1945م، وانتُخِبَ عضوًا في لجنة القانون الدولي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة في العام 1947م. وكانت 14 دولة قد رشَّحتْ مندوبيها في هذه اللجنة؛ أما هو فقد انتُخِبَ في اللجنة المشكَّلة من 15 عضوًا دون أن ترشِّحه دولتُه.

وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث كان فارس يحضر اجتماعاتها ممثِّلاً لبلده سورية، وفي مجلس الأمن المنبثق عنها، الذي ترأسه فارس لسنتين متتاليتين (1947-1948م)، حيث احتلت سورية المقعد غير الدائم بعد انتهاء عضوية مصر فيه، وفي كلِّ ما استطاع الوصول إليه من منابر ومنتديات، ناضل بكفاءة ونجومية من أجل إنجاز الاستقلال لبلده وللبلدان العربية التي كانت قضاياها معروضةً أمام الهيئات الدولية، وفي مقدِّمتها القضية الفلسطينية. وقد كتب مراسل جريدة المصري في باريس في 13 كانون الأول 1948م رسالةً جاء فيها:

اليوم ينتهي عام 1948، وتنتهي عضوية بعض الدول في مجلس الأمن وتبدأ عضوية غيرها. وإذا كان علينا أن نودِّع دولة، فلا نجد غير سورية نودِّعها في شخص ذلك الرجل الذي مثَّلها ومثَّل العرب أجمعين، والذي كانت وفود العالم كلها تنظر إليه على اعتبار أنه مثلٌ يُضرَب للنشاط الذي لا يكل وللشجاعة لتي لا يؤثِّر فيها شيء. إن دولة الخوري بك رجل حقَّق المعجزات.

في السنوات القليلة السابقة على قيام دولة إسرائيل في العام 1948م، شهدت أروقةُ الأمم المتحدة ومنصاتُها جدلاً طويلاً وصراعًا حادًّا حول ما كان يُطرَح من مشاريع وأفكار تتعلَّق بمستقبل الوضع الفلسطيني بعد إنهاء الانتداب البريطاني. وقد شُكِّلتْ عدةُ لِجَان لتقصِّي الحقائق ولِجَان لدراسة المشاريع: مشاريع لتقسيم فلسطين، فيها السيِّئ وفيها الأقل سوءًا؛ وطُرحَ مشروعٌ لتأليف فدرالية، ومشروع لما يشبه الدولة الفدرالية، حتى كان مشروع التقسيم الذي أقرَّتْه الجمعية العمومية بالأغلبية في العام 1947م ولم يَجْرِ تنفيذُه، إنما الذي جرى حربٌ غير متكافئة بين جيوش عربية وُجِدَتْ في وضع غير ملائم وبين منظمات صهيونية مدعومة بالمال والسلاح. وانتهت الحرب إلى قيام دولة إسرائيلية على أرض فلسطينية تتجاوز مساحةً ما خصَّص لها قرارُ التقسيم الذي صدر عن الأمم المتحدة.

لا أحد يستطيع الجزم بالوجهة التي كانت ستتطور إليها الأمورُ فيما لو كان الموقف العربي أخذ هذا الشكل أو ذاك، وافق على ذلك المشروع أو غيره، قَبِلَ بوقف الحرب في مرحلة معيَّنة أم لم يقبل؛ لكن المسألة التي تستدعي التوقف عندها والتأمل فيها هي التالية: إن فارس الخوري الذي أجاب فيصل عن سؤاله في العام 1920م حول إعلان الاستقلال والملكية له في سورية بقوله: “يجب أن تدعم هذا دولةٌ كبرى على الأقل”، والذي أتى مع الوفد المفاوض من باريس في العام 1936م بمعاهدة وقف في وجهها الكثيرون في بلده، إلى حدِّ اتِّهام موقِّعيها، فوصفها بأنها “معجزة القرن العشرين” – فارس الخوري هذا نفسه نجده، في المناسبات كلِّها التي بُحِثَتْ فيها القضيةُ الفلسطينية، رافضًا بتصميم مشاريع التسوية التقسيمية واقتراحات الهدنة المتعددة.

بعد أقل من ثلاث سنوات من الحصول على الاستقلال وقيام الحكم الوطني، المؤسَّس وفق النظام الجمهوري البرلماني والمستند إلى دستور عصري، حصل في سورية أول انقلاب عسكري. وقبل عام كانت قد وقعتْ نكبةُ الشعب الفلسطيني، وعلى أرضه قامت إلى جوارنا دولةٌ عدوة، استهلَّت الجمهورية السورية الناشئة تاريخَها بحرب معها لم تنتهِ، وإنما قامت هدنةٌ هشة. وإذا اقتصرنا على هذا الظرف فقط، متناسين عمدًا الآن – وسامحونا! – الظروفَ الدولية والمؤامرات، فهو كافٍ لكي نتذكر كم كانت ظروف هذه الجمهورية السورية الوليدة هشة وصعبة.

إذن، حصل الانقلاب الأول! وفي الحقيقة أنا لا أعرف – ولعل أحدًا يستطيع أن يخبرني – عن دولة العدو التي إلى جوارنا، كم حصل فيها من انقلاب عسكري حتى الآن، كم ضابط في جيشها قُتِلَ أو سُرِّحَ أو أُبعِدَ، كم سجين سياسي قضى في سجونها أم لم يقضِ، كم زعيم سياسي عندها خُوِّن أم لم يُخوَّن!

إذن حصل أول انقلاب عسكري في 30 آذار 1949م، وقاده الضابط الأرعن حسني الزعيم. وبعد أسبوعين من الانقلاب، سيطر الزعيم على كلِّ مقادير السلطة في البلاد، بينما احتار السياسيون في طريقة التعامل مع الانقلاب الجديد:

الاتجاه الأول: تزعَّمه فارس الخوري، رئيس مجلس النواب السابق، ويقول بضرورة إطفاء النار التي شبَّت في البيت، ويعني العودةَ تدريجيًّا إلى عهد دستوري جديد تسوده الديمقراطية، ويطالب بالتعاون مع الزعيم حتى يسخِّر الانقلاب للإصلاح والتقدم لتجنيب البلاد المزيد من الانقلابات العسكرية.

الاتجاه الثاني: تزعَّمه الحوراني وعفلق والبيطار، كان تعاونُه مع الانقلاب مشروطًا بالإصلاحات السياسية الجذرية الفورية.

الاتجاه الثالث: تزعَّمه رشدي الكيخيا وناظم القدسي، حزب الشعب، وطالب بعودة الجيش إلى ثكناته فورًا لإعادة الحياة النيابية والديمقراطية إلى البلاد.

الاتجاه الرابع: تزعَّمه الحزب الوطني، ودعا إلى مهادنة الجيش والسعي لانتخابات جديدة تعيد الحياة البرلمانية والديمقراطية إلى البلاد.

أعلن فارس الخوري، السياسي السوري المحنَّك، أن الانقلاب قد كفل للرجال الخيِّرين عصرًا من الاستقرار الدائم طالما تاقوا إليه، يقوم على مبادئ العدالة والعمل الطيب، مع الدعم الشعبي للحكومة: “والأمل يملأ فؤادي أن الزعيم سيتقدم بحزم وسلام حتى يقيم حياةً دستوريةً وحكمًا جمهوريًّا يتفق وإرادةَ الأمة.”

إلا أن المسبحة تكر، والعقد ينفرط، ويحصل الانقلاب الثاني بعد عدة أشهر في 14 آب. ولم ينتهِ العام حتى كان الانقلاب الثالث، وقاده الشيشكلي؛ وأتبعه، بعد سنة أو أكثر بقليل، بانقلاب آخر.

قام الشيكشكلي بانقلابه الثاني، وشكَّل حزبه الخاص (التحرير)، وبدأ حكمه الفردي. تحالفت ضده قوى مختلفة من اليسار واليمين. ومن داخل الجيش حدث تمردٌ كبيرٌ عليه، ففضل عدم المقاومة عسكرياً، وخرج من البلاد – وهذا عمل يُحسَب له.

جرت انتخابات العام 1954م النيابية في البلاد، ونجح اليسار في إيصال عدد لا بأس به من النواب إلى المجلس، غالبيتهم من حزب البعث العربي الاشتراكي. وتميزت انتخابات دمشق بفوز كبير لخالد العظم، وأيضًا للأمين العام للحزب الشيوعي خالد بكداش.

شكَّل فارس الخوري وزارته الرابعة في أواخر العام 1954م. ولدى مناقشة البيان الوزاري، كانت هناك مجموعات من الناس، منهم طلبة، يحتشدون أمام المجلس النيابي ويهتفون ضد الحكومة ويتهمونها بالخيانة والعمالة، وفي المجلس صخب وصراع حادَّين.

استقالت حكومة الخوري في 7 شباط 1955م بسبب استقالة وزيرين من حكومته وغياب ثالث في عمل خاص بالكويت؛ وقد رأى فارس أن العرف البرلماني يوجب عليه ذلك.

وأقيمت الوحدةُ بين سورية ومصر، ولم يكن للخوري رأيٌ لا في قيامها ولا في انهيارها. وفي 22 شباط 1960، وبينما كانت جماهير الهاتفين المصفِّقين تحتفي بالسيد جمال عبد الناصر أمام قصر الضيافة في الذكرى الثانية للوحدة، أُصيب فارس بكسر أليم في عنق فخذه الأيسر في غرفة نومه.

أمَّا موقف الخوري من الإسلام، من ناحية رأيه بتطبيق الشريعة الإسلامية فيقول: “هذا هو إيماني: أنا مؤمن بالإسلام، وبصلاحه لتنظيم أحوال المجتمع العربي، وبقوته في الوقوف بوجه كلِّ المبادئ والنظريات الأجنبية، مهما بلغ من اعتداد القائمين عليها. لقد قلت، ولازلت أقول: لا يمكن مكافحة الشيوعية والاشتراكية مكافحة جدِّية إلا بالإسلام، والإسلام وحده هو القادر على هدمها ودحرها.

توفي فارس الخوري في 2 كانون الثاني عام 1962مـ وقد ترك ذكرى عطرة لحياته الوطنية التي تجلت بفكره الناضج وآرائه الحكيمة.