كتاب سبر

رحل رافسنجاني ولا تشفي بالموت لكن قفل الصندوق الإيراني.. انكسر

رحل (آية الله) علي أكبر هاشمي رافسنجاني عن هذه الدنيا، وعلى ما يمثله الرجل من منصب قيادي نافذ في دولة عدوة، فإنه لا تشفي بالموت، ولكن هل طبيعي أن يموت رجل كبير في بلد مجاور ويزعم أنه مسلم ولا تجد عربيا واحدا يتعاطف معه!؟

البارحة سجلت مقطعا على قناتي في يوتيوب وكان رافسنجاني أحد فقراته الرئيسية وبعد ربع ساعة من تسجيل المقطع جاء خبر موت الرجل!

هذه واحدة من إلهامات كثيرة تمر علي (إعلاميا)، لكن ليس هذا هو المهم، وإنما ما بدأت به من السؤال عن سبب هذا الغضب والحقد العربي على الرجل، وغيره من قادة المؤسسة الحاكمة في طهران، والتي تبدو جيدا أنها لا تكترث لهذا وتمضي قدما في سياستها المتغولة ضد كافة البلدان العربية عبر التدخل الدموي والتخريبي في شؤونها.

هاشمي رافسنجاني يحتل اسمه حيزا كبيرا الآن في منابر إعلامية كثيرة وسيرته على كل لسان فهو لم يكن بالرجل العادي من بين فريق أتى به الخميني لا ليتولى أهم المناصب فقط وإنما أهم الأدوار في تركيبة نظام يقوم على الأشخاص لا المؤسسات، حتى فرقته التطورات عن نده اللدود الذي يحتل الآن المنصب الأول، والقرار الأول، وتتركز في يديه كل السلطات، ويحتل الواجهة كديكتاتور يمسك بيده المؤسستين الدينية والأمنية، مع فريق اقتصادي يستحوذ فيه ابنه مع قيادة (الحرس الثوري) على أكثر من نصف الاقتصاد الإيراني، بعد أن كان (المرشد) السابق (الخميني) لا يملك غير مسباح ومتعلقات شخصية.

يعكس هذا التطور الطبيعي لأي نظام شمولي لا بد أن يركز السلطات ويجنح بها نحو المنحى الضيق، والذي يسبق عادة انهيار النظام وتمزقه.

ولعل خير توصيف للحالة الإيرانية بعد موت رافسنجاني هو ما قالته السيدة مريم رجوي، رئيسة الجمهورية المنتخبة من قبل المقاومة الايرانية: “مع موت رفسنجاني انهار أحد ركني النظام الفاشي الديني الحاكم في إيران، وعامل توازنه مما يقرب النظام برمته الى السقوط”.

وترى رجوي “أن الرجل كان طيلة 38 عاما مضت يلعب أحد أكبر الأدوار في القمع وتصدير الإرهاب والسعي للحصول على القنبلة النووية، وأنه كان دوما الرجل الثاني للنظام وكفة التعادل له وكان له دور حاسم دوما في حفظ نظام يفقد الآن مع موته تعادله الداخلي والخارجي”.

رافسنجاني الذي ارتقى في السنوات الأخيرة إلى درجة (آية الله) ليكون مرجع تقليد (مؤهلا)، كان لوراثة علي خامنئي بعد أن ظل بجانبه كرجل ثانٍ، لكنه كان رجلا مهما ملأ كل المناصب التي شغلها، فمن موقعه كرئيس لمجلس الشورى امتلك وحده دون سواه القدرة على مواجهة الخميني بضرورة أن يذعن للقرار 598 بوقف الحرب الإيرانية العراقية، وتجرع كأس السم من منطلق أنه غير ممكن هزيمة العراق، حتى إذا مات الخميني وقف بكل نفوذه إلى جانب ترقية الرئيس علي خامنئي من منصب الرئاسة إلى قلعة المرشد الأعلى، على الرغم من اعتراض كثيرين من المؤسسة الدينية، كون خامنئي لم يكن حينذاك أتم ما يسمى البحث (الخارج) الذي يجيب فيه المجتهد بحسب المذهب الإثني عشري، على كافة المسائل ليكون (مرجعا) يقلده أتباعه.

لكن رافسنجاني ضغط ونال مراده لتتحقق الشراكة باقتسام السلطة بينه وبين المرشد، فكان أقوى رؤساء إيران في عهد خامنئي وتصرف كصاحب قرار لا ينازعه أحد حتى حصل الفرز بين من كانوا يسمون المعتدلين والراديكاليين (مهدوي كني ومهدي كروبي) وتحولا تيارين لما يسمى الآن المحافظين والإصلاحيين، بينما شكل رافسنجاني جناحه الخاص حيث أسس طبقة تجارية جديدة قفزت على (البازار) التقليدي، وقلص من دور الإصلاحيين بعزل مير حسين موسوي رئيس الوزراء وضم المنصب لرئاسة الجمهوية
لتمر فترتي ولايتيه (8 سنوات) فيجد نفسه مضطرا للافتراق عن خامنئي الذي كان نفوذه تضخم، ويضغط على المؤسسة الدينية (مجلس الخبراء) كي تقبل ترشح محمد خاتمي (وزير ثقافة الخميني) للرئاسة بعد أن كانت هذه المؤسسة رفضت قبول ترشّحه، وليخوض غمار حرب (انتخابية) مع المحافظين من أجل فوز خاتمي على مرشحهم (ناطق نوري).

لكن الأمور سارت عكس ما أراد، فبين ضعف خاتمي وانحياز مؤسسة العسكر للمحافظين، تمزقت أحلام الإصلاحيين بالحد من سطوة خامنئي، ومضت فترة خاتمي باهتة إلا من بريق إعلامي خارجي، وحل محله صبي المحافظين أحمدي نجاد، وأطيح بأحلام الإصلاحيين بالقوة الغاشمة واعتقل رموزهم بما في ذلك ابنة رافسنجاني (فائزة) وغيرها من أفراد العائلة، دون أن يستسلم الرجل أو يصيبه الوهن، فظل ممسكا بخيوط مهمة داخل عصب النظام.

ورافسنجاني يتقن هذا جيدا فمثلما ألغى منصب رئيس الوزراء خلال مدة رئاسته، فإنه لم يغادر منصة الرئاسة حتى فعّل مجلسا نص عليه في الدستور وهو (مجلس تشخيص مصلحة النظام) فجلس على منصته (كرئيس) لكافة الرؤساء (الجمهورية والبرلمان والخبراء) وغيرهم، محتفظا بمقامه كرجل تال لخامنئي مباشرة، ينافسه في تزكية المرشحين بكل انتخابات، مع امتلاك الرجال داخل أجنحة السلطة المتنافسة، فأمكن له تفويز رجله حسن روحاني كرئيس، وفرض معه ضرورة الخضوع للشروط الغربية حول الملف النووي رغم اعتراضات المحافظين، بظن أن الاتفاق يمنح إيران فسحة من تفعيل علاقاتها مع الغرب تحت وقع الأزمة الاقتصادية وانهيار أسعار النفط، واستغلال ذلك في عملية تخادم مع الغرب عبر التدخل السافر في العديد من الدول العربية.

على أن الصحوة السعودية أحبطت هذا، ولم تحقق إيران انتصارا يذكر في كل الجبهات المفتوحة، وازداد تورطها باستنزاف ثقيل لا يحصل على نصر حاسم، وانفتحت الأزمة مع الغرب مجددا، وأخفقت كل محاولات جلب الاستمارات الغربية، وتواصلت الأزمة المعيشية الخانقة.

هنا مات رافسنجاني، فلا أحد يعلم من سيخلفه في منصب (المداحرة) مع المرشد، ولا أحد يعلم ما الذي سيحصل بين أجنحة النظام، على أن غياب عقل كبير للنظام من وزن رافسنجاني هو مؤشر شؤم على نظام شاخ وبلغ مرحلة الهرم والتداعي، فبينما كان الصراع شبه المكشوف بين الرجلين يمثل سورا حاميا ضد اندفاع القوى المجتمعية نحو الاحتجاج، فإن إيران اليوم تقف أصعب الخيارات التي قد تنفجر معها القوى الشعبية المسحوقة بوجه مؤسسة عسكرية همها الأول ضمان الولاء والسيطرة المطلقة لحاكم فرد من دون أي منافس أو شريك.

مات رافسنجاني ثعلب الخميني الماكر، وبموته ربما تقترب الخمينية من خط النهاية، وهي نهاية تتم دون أي مسعى حقيقي لنزع فتيل الكراهية والصراع مع العرب.. جميع العرب.