كتاب سبر

مالطا جزيرة شبه عربية

جزيرة متناهية الصغر سكانها لا يتعدى النصف مليون، من دول الاتحاد الأوربي لكنها جغرافياً في افريقيا، متوغلة بجنوب المتوسط إلى درجة تجعلها جنوب عاصمتين افريقيتين؛ تونس و الجزائر. قيادة السيارة فيها مغامرة تذكرك بشوارع المدن العتيقة، حيث الحناطير و الدراجات تتقاطع مع الباعة. المدخنون فيها ينعمون بحرية قتل أنفسهم بالأماكن المغلقة، الناس في المطاعم و المقاهي يتشاجرون بعد أن تتعالا أصواتهم كرماً عند دفع الحساب. معالم العولمة القاتلة للفروقات الجميلة بين البلدان تكاد تنعدم، بما فيها العجوز الخضراء المشهورة بستاربكس، كبيرتهم التي علمتهم الحداثة.

كل تلك الخصائص لا تعد ذات أهمية لمن استرق السمع للغة المالطيين. فللوهلة الأولى تعتقد أن المتكلمين من تونس أو لبنان، ثم لا تلبث أن تركز كل طاقتك في أذنيك لتسمع أكبر كمية ممكنة من الكلمات العربية في سياق لغة غريبة و لكن مضمون الكلام و قصده مفهوم بسبب زخم مفردات الضاد فيه. حينها لا تجد سوا محركات البحث الإلكتروني لتشبع فضول علمك و تشفي غليل جهلك بهذه اللغة الهجينة، فلا هي عربية صريحة، و لا هي غريبة فتنكرها الأذن و يتجاهلها السمع.

إلا أن الذهول انحصر و الغرابة تبددت بعد ما علمت أن هذا البلد كان تحت حكم المسلمين العرب ما يقارب ثلاث قرون، و أن الملوك الذين دانت لهم البلاد بعد المسلمين اتسموا بالعدل و قبول الآخر، لا سيما العرب بما رأوا من خصالهم و ما حملوه من حضارة و ما حوته لغتهم من علوم الأمم الأخرى. فأبقى هؤلاء الملوك العرب على ما في أيديهم و أنزلوهم منازلهم، فمنهم الوزراء و المستشارين و المعمارين و أرباب الرتب العليا. و بما أن الناس على دين ملوكهم فقد انكب المالطيون على ثقافة العرب، و نهلوا من معين العربية فتكونت لديهم لغة أينعت و أثمرت جمالاً و بهاءً بعد أن رعت و ارتوت نحواً و ضاداً.
***
من نعم الله علينا أن فتق ألستنا بلغة القرآن من غير عناء منا و جهد، فإذا البعض ممن ابتلينا بهم من بني جلدتنا يزهد بهذه النعمة فلا يقيم لها وزناً و لا يدرك لها فضلاً. فيحرص كل الحرص و يبتغي الوسيلة لتكون الإنجليزية لغتة ولغة أبناءه الأولى، بل يحرص على أن لا يحدثهم إلا بها حتى غدا عرفاً لديهم أن الإنجليزية هي لغة التخاطب مع الأطفال، فضلاً عن تنازلنا للخدم بأن لا نخاطبهم بها، فأي ازدراء للعربية حين تطغى لغة الخادم عليها. نكاد نبدّل نعمة الله كفراً بعد أن اعتبرناها لغة من لا حظ له، فلا تجعلوا العربية أهون شيءٍ عندكم.

د.خالد الصيفي