آراؤهم

البدون.. حل يحافظ على الهوية الوطنية.. ما الجديد.. وماذا بعد؟

حل يحافظ على الهوية الوطنية .. فإن كانت بداية القصيدة كفر فإن خاتمتها لن تكون بأفضل حال إذ أن هذه الجملة الاعتراضية التي لا محل لها من الإعراب في سياق الحديث عن معالجة قضية البدون تستخدم للإيحاء بأن الحل سوف لن يكون بمنح هؤلاء حق المواطنة وعليه فإن المعالجة التي يتبناها القائمون على أمر هذا الملف حاليا لن تخرج في سياقها العام عن المبادئ الأساسية للسياسة الحكومية الممتدة لأكثر من 35 عاما مضت تقريبا وأولها الرفض المطلق لوجود أشخاص عديمي الجنسية في الكويت وثانيهما أن الأغلب من هؤلاء مزورون دخلوا البلاد خلسة أو أنهم أخفوا ثبوتياتهم وثاثهما أن الحكومات المتعاقبة لا تتحمل وزر إبقاء الملف مفتوحا ورابعها أن على المنتمين لهذه الفئة عبء تعديل أوضاعهم القانونية.
خيارات صعبة .. وسياسات سوف لن تفضي إلى جديد يذكر إذ أن الاصل في علاج أي قضية يكمن أولا وقبل كل شيء في الاعتراف بوجودها فإن ألغيت هذا الاعتراف فإن النتائج اللاحقة سوف لن تقود إلى ضوء في آخر النفق.
أصل الملف أن إقامة هذه الجموع شرعية تماما وفقا لقانون إقامة الأجانب في الكويت الذي نصت المادة 25 منه قبل إلغائها في العام 1987 على السماح بدخول أبناء العشائر العربية إلى الكويت والإقامة فيها من المنافذ التي اعتادوا على الدخول منها وبالتالي فإن كل من سجل دخولا إلى الكويت من أبناء هذه القبائل قبل هذا التاريخ هو مقيم بصورة قانونية في الدولة والاعتراف بهذا المبدأ قبل كل شيء يضع آلية واضحة للتعامل مع هذا الملف حيث أن ابناء القبائل وفي سياق اجتماعي صرف لم يكونوا يعترفون بالحدود الجغرافية للدول التي نشأت حديثا وكانوا يعترفون فقط بحدود جغرافيتهم الخاصة بهم فهذه أراضي القبيلة الفلانية وتلك حدود مراعي القبيلة الفلانية ولا شيء سوى ذلك وأغلب من خبر الطبيعة الاجتماعية لهؤلاء البدو الرحل يجد أنهم كانوا يأنفون من مسألة الاستقرار في المدينة أو الأرياف والقرى والالتحاق بمهن وحرف يدوية ويحطون من قدر المشتغلين بها.
هذا الفهم لطبيعة تشكل القضية من بدايتها هو ما غيب لاحقا عن كل المعالجات التي سعت الدولة إلى إيجادها ولهذا فإن توافد أبناء القبائل على الكويت في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي كان في إطار الترحال الذي اعتادوا عليه ثم إن الاستيطان الذي عمدوا إليه كان في بواكيره الأول استيطانا جزئيا بمعنى أن كثيرا من الأفراد وفدوا فرادى دون أسرهم .. وربما لأن الحياة في البادية لم تعد توفر لهم مردودا ماديا مجزيا انخرط كثيرون في ما يعتقدون أنه يليق بهم وهي حياة العسكرية وهي فرصة وجد القائمون على إنشاء الهياكل الإدارية للدولة الحديثة أنها مهمة وضرورية وأن هؤلاء خير من يشغلها باعتبار أن ولاءهم للشيوخ اعتيادي وتلقائي نشأوا عليه وأيضا ضمن هذا السياق لا يجب إغفال أن صراع سلطة المشيخة مع سلطة الدولة المدنية أسهم كثيرا في فتح المجال لأبناء البادية لتشكيل نواة الجيش والقوى الأمنية.
وضمن الفهم المتنامي لتطور هذا الملف يجب الإشارة إلى أن الدولة الحديثة في بواكيرها لم تستطع تجاوز عقدة الدولة المدينة في نفوس القائمين على أمرها فكان أن أسلموا قيادة ملف التجنيس لمن رأوا أنه تبع لهم .. ورغم أن المشرع قبل استقلال الدولة كان تقدميا وثوريا بالمقارنة لما آل إليه الوضع لاحقا حيث نجد ذلك جليا في قانون الجنسية الأصلي الصادر في العام 1959 قبل أن تطاله يد العبث وكان يؤسس بحق لمواطنين حقيقين في دولة مدنية يعترف بأن جل سكانها ممن وفدوا إليها في فترات متلاحقة واستوطنوها تباعا ولا فضل لأحد على أحد إلا بالقدر الذي وصل فيه أسلافه إلى الكويت بدليل أنه عمد إلى تسطير نص راق كان سيؤدي إلى مساواة تامة بين المواطنين وهو نص المادة الثانية الذي يقضي بأن يكون كويتيا كل من ولد لأب كويتي وهو النص الذي ظل معطلا حتى اللحظة بل وازداد القانون تشوها حينما لم يلتفت المشرع في بداية تسعينيات القرن الماضي لوجود هذا النص المعطل وعمد إلى استحداث نص آخر يكرس التفرقة البغضية بين المواطنين وهو نص المادة السابعة فقرة 3 .
حينما بدأ تطبيق قانون الجنسية وشكلت اللجان كان الأصل أن يحصل عليها كل من يستطيع إثبات الأحقية بها وفي مجملها كانت لا تتجاوز شهادة أشخاص من المتنفذين المقيمين داخل حدود الدولة المدينة أو قراها أو توصية من هؤلاء أو من أفراد الاسرة الحاكمة وهي وإن كانت مقبولة في بواكير نشوء الدولة إلا أن ما هو غير مقبول إغلاق هذه اللجان بعد أقل من خمس سنوات على بدء عملها وبقاء آلاف دون تحديد هويتهم من جهة ومن جهة أخرى عدم تزامن مسألة التجنيس مع حملة توعية بأهمية أن يكتسب من يعتقد أنه مواطن كويتي الهوية الوطنية لأنه وفي غضون سنوات قليلة لاحقة سيكون أجنبيا وسيطالب بالرحيل عن الدولة أو الحصول على وثائق من البلد الذي ينتمي له.
والآن السؤال الذي تظل الإجابة عليه واجبة ممن كان معاصرا لتلك الفترة : هل كان القائمون على أمر تخطيط ووضع السياسة العامة للدولة على دراية كاملة بما يمكن أن يتطور عليه أمر هذا الملف ؟
تغييب هذا التطور التاريخي لنشوء ملف البدون عن المعالجات القانونية اللاحقة لا يعطي مسوغا لقبول هذه الحلول التي تطرح حاليا لأن لا أحد من القائمين على أمر الدولة من الحكومات المتعاقبة أجاب على أسئلة بديهية أولها : لماذا تم الإبقاء على شريحة واسعة من السكان دون إثبات إقامة رسمية لهم ؟ .. وهل كان صحيحا أن دافع ذلك سياسة توزيع حصص الإنتاج النفطي بين دول منظمة الأوبك التي كانت تعتمد الحصة مقارنة بعدد المواطنين لكل دولة وعليه كان لزاما زيادة عدد المواطنين صوريا بإدراج البدون ضمن كشوف المواطنين دون الالتزام بحقيقة منحهم المواطنة؟ ولماذا طوال عقد الستينيات والسبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات كانت الدولة تسمح لهؤلاء بالانخراط بصفوف القوات المسلحة فيها وتعطي الوعود تلو الوعود بتجنيسهم خلال فترة زمنية قريبة وكلنا نعلم أن هذه الفترة الزمنية الممتدة لما يقارب من ربع قرن هي فترة تشكل الدول الحديثة في المنطقة وتشكل المجتمعات فيها واكتساب المواطنة بها وكان من الممكن حينها دفع هؤلاء إلى الرحيل طلبا للمواطنة في أي من دول الخليج القريبة (السعودية – البحرين – قطر)؟ .. أسئلة محورية لم نجد مطلقا إجابات شافية لها ممن يتصدون لأمر معالجة الملف وكأن البدون قضية ولدت بعد الغزو العراقي للكويت أو أنها مشكلة شخصية لمجموعة أفراد دخلوا البلاد خلسة ومزقوا أوراقهم الثبوتية ليحصلوا على الامتيازات التي تمنحها الدولة وهي القناعة التي وجدت صدى مؤيدا لدي قطاع من المواطنين المغيبين عن أصل المسألة وتطوراتها ورغم ذلك لم يقف أحد من هؤلاء ليسأل بمنطق صريح وواضح : لماذا تمنح الدولة امتيازات خاصة لغير مواطنيها .. وما الذي يجبرها او أجبرها على ذلك ؟ وهل كانت الدولة مشاعا لكل راغب في دخولها ومن ثم تمزيق إثباتاته والادعاء أنه بلا هوية؟
أسئلة تتوالى ولا إجابة عليها إلا بمزيد أسئلة تتمحور حول رغبة القائمين على ملف المعالجة دفع كثيرين من أبناء البدون إلى اكتساب جنسيات محددة في الوقت الذي يعلنون أنهم كشفوا عن الجنسيات الحقيقية لهؤلاء .. فكيف يستقيم هذا المنطق مع ذاك إلا حينما يختزل الوطن بوليمة لا يريد المستأثرين عليها أن يشاركهم بها أحد .. وهو منطق أعوج لمفهوم الوطن والمواطنة الحديثة.
إن هذا المنطق الأعوج لا يجاريه إلا الادعاء بالكشف عن جنسيات الغالبية من هؤلاء البدون .. وهو ادعاء يقوم على ربط الأقارب ببعضهم البعض للاستدلال على أن من يحمل جنسية هذا البلد أو ذلك بالضرورة أن يكون قريبه من ذات الجنسية وينحون جانبا أي سياق موضوعي لهذا الادعاء مثل أن يكون هذا الشخص قد اختار الهجرة من الكويت مرغما بعدما ضاقت السبل به وبالتالي ليس من العدالة في شيء أن يتحمل الصابر وزر أو ذنب ذلك الاختيار الفردي لقريبه ..
أخيرا فإن المعالجة الحقيقية لا تتأتى إلا من خلال قانون يحتوي هذه المجاميع السكانية ويضفي عليهم المواطنة تباعا إن كان هناك تخوف من ارتباك المنظومة الإدارية بدخول أعداد كبيرة من المواطنين عليها فجأة .. وهذه المعالجة تتطلب تخفيف الضغوط المعيشية التي يعاني منها البدون حاليا ومنحهم فرصة الكمسب والعيش الكريم والسماح لهم بشغل الوظائف الممكنة بحسب خبراتهم سواء في القطاع الحكومي أو القطاع الخاص ثم البدء بمنح المواطنة لهم بأعداد متوازنة سنويا إلى حين استكمال هذه الإجراءات خلال فترة زمنية يحددها القانون المقترح.. أما مسألة الأقصاء والنفي فإنها سوف لن تكون المعالجة الرصينة أو العادلة لهكذا ملف.
وعلى الله قصد السبيل.

جاسم محمد الشمري

4 تعليقات

أضغط هنا لإضافة تعليق

اترك رداً على خالد العازمي إلغاء الرد