كتاب سبر

الديمقراطية.. وما بعدها

حوار قصير دار بيني وبين أحد الشباب وكان محوره كيفية مواجهة الوضع السياسي والاقتصادي والمعيشي المتأزم الذي تعيشه الكويت، وهو بالمناسبة سؤال الكثير من الشباب اليوم، الذين يعتقدون بانسداد أفق الخروج من هذا الوضع.

تركز الحوار على ثلاث مسائل: النظام الانتخابي الراهن (الصوت الواحد)، والنهج الحكومي، والديمقراطية. ولم نكن بصدد مناقشة كل مسألة على حدة، بل انتهى حوارنا القصير إلى تأكيد فشل النظام الانتخابي والنهج الحكومي في معالجة المشاكل، مع الإشارة إلى وجود دعوات غربية تزعم بأن الديمقراطية باتت نظاما عاجزا، وأنه لابد من البحث عن اكتشاف جديد ليحل محلّها، رغم أننا في الكويت لم نصل بعد إلى مرحلة الديمقراطية “العاجزة” تلك، والتي لم نحقق شروطها الأساسية، كحكم الشعب وتداول السلطة وسيادة القانون والنشاط الحزبي واحترام الحقوق والحريات.

لكن، هل الديمقراطية أصبحت بالفعل “عاجزة” وهناك مسعى لطرح بديل عنها؟ أو، هل هناك مصطلح يسمى “ما بعد الديمقراطية”؟ حسب الكاتب الأردني حسن أبوهنية أنه “إذا كانت ما بعد الديمقراطية في عالم الغرب تشير إلى اختلاط اليمين باليسار وتراجع دور الشعب وصورية العملية الانتخابية وصعوبة الفصل بين السلطات، ففي عالم العرب لم تعرف الأجيال بداهات الديمقراطية”.

وفي نظر العديد من الباحثين، كبول شاؤول، فإن ظاهرة “السترات الصفر” في فرنسا، المتسمة بالعنف والفوضى ليست سوى رفض للديمقراطية التمثيلية، بل وحتى رفض لمفهوم الديمقراطية. فالناس عموما، وخصوصا الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وسكان الأرياف لم يعودوا يحبون الديمقراطية: إذ يحمّلونها كل ما يعانون من مشاكل. أكثر الأحزاب التي مارست هذه الديمقراطية تخلت عنها الناس. حتى باتت في نهايتها: سقط اليمين واليسار والوسط، وفقدت الديمقراطية عناصرها المكونة، لتطفو على السطح النوازع العنصرية، والفوضى، والقوميات المتطرفة، والتقوقع، وكراهية الغرباء، والمهاجرين، والأفارقة والإسلام.

ثم يتساءل شاؤول: كيف نفسّر أن الديمقراطية، سلطة الشعب، وبات الشعب يكرهها؟

هناك من يطرح مصطلح “ما بعد الديمقراطية” ليشير إلى عهد ديمقراطي جديد. من هؤلاء، البريطاني كولين كراوتش الذي يربط هذا العهد بالليبرالية الجديدة أو بعصر الرأسمالية بطابع العولمة. فيقول: “أصبحت القرارات تُتّخذ من مكان آخر من قبَل آخرين في ردهات اللوبيات وفي الشركات الكبرى المرتبطة بالنخب السياسية التي تربطها صلات قوية بهذه النخب”.

وهناك من ظهر بتعريفات تخصصية للمصطلح، كالتعريف الذي ذكره المحلل التركي أحمد أنسل: “إلى جانب ما بعد الديمقراطية التكنوقراطية، ظهرت ما بعد الديمقراطية الاستبدادية، كالتي جاء بها شافيز في فنزويلا، وأوربان في المجر، وأردوغان في تركيا: فهم قادة منتخبون بطريقة جيدة، ولكن ما إن تمر الانتخابات حتى يعتقدون أن الشعب صار واحدا منهم، وأنهم يسكنون هذا الشعب، أما العدو، بالنسبة لهم، فهو الفصل بين السلطات”.

في الكويت، قد تنقلنا الظروف نحو مرحلة “ما بعد ديمقراطيتنا الكويتية” وليس ما بعد الديمقراطية الحقيقية، وهذه المرحلة لها سلبياتها وإيجابياتها، ومع ذلك لم تسمى الكويت في يوم من الأيام “دولة ديمقراطية” لدى المنظمات المعنية بقياس الديمقراطية حول العالم، بل المسمى المتداول عنها أنها دولة تتسم ببعض الحريات النسبية.

وفي تصوري فإن مرحلة “ما بعد ديمقراطيتنا” ستتسم بأفق حريات سياسية واجتماعية أوسع، بسبب تأثيرات العولمة الرقمية وضغوطات وسائل التواصل الاجتماعي والتغيّرات التي باتت تطرق باب العالم العربي، والخليجي على وجه الخصوص نتيجة لتحديات الحداثة. غير أن السلطات المناهضة للحريات، كالسلطة السياسية والدينية والمحافظة، ستسعى لمقاومة التغيرات الجديدة، وكل ما يمكن أن تفعله هو أن تبطئ سرعة هذه التغيرات. لذلك، ستكون هذه المرحلة مليئة بصور الصراع بشأن الحريات، السياسية والاجتماعية والفكرية، وسيكون لذلك تأثير على شكل “ديمقراطيتنا”، لكن لمن ستكون الغلبة؟ بالطبع ستكون للتغيير، وللنتائج التي ستفرزها، شاء المخالفون أم أبوا، فالمرحلة الجديدة قادمة لا محالة، والخلاف هو فقط على المجال الذي سنكون فيه.

فاخر السلطان