كتاب سبر

“الصفقة”.. وبؤس الهيمنة

لا تزال ارتدادات الهزة التي أحدثها الإعلان عن الشق السياسي “لصفقة القرن” بشأن النزاع الفلسطيني الإسرائيلي مستمرة وبقوة، ومن شأن هذه الارتدادات أن تستمر لفترة غير قصيرة، غير أن تأثيراتها تتفاوت بين الحكومات والشعوب. فإذا كان الصوت الأعلى راهنا يشير إلى تعارض الصفقة مع القرارات الدولية المتعلقة بحل القضية الفلسطينية، فإن هناك صوتا يقابل ذلك ويدعو إلى استثمار الصفقة بوصفها فرصة لا يجب تفويتها، على اعتبار أن القادم من ظروف سياسية واقتصادية لن تكون في صالح القضية الفلسطينية.

لكن اللافت في المواقف المعارضة للصفقة أنها تنقسم إلى قسمين: قسم يعارض الصفقة إنطلاقا – كما قلنا – من عدم توافق رؤيتها وتفاصيلها مع القرارات الدولية ومع المواقف الفلسطينية في علاقتها بتلك القرارات، وهو موقف يشترك فيه أقلية من العرب والكثير من غير العرب.

أما القسم الآخر المعارض فيهيمن عليه الصوت الأيديولوجي للجمهور العربي والمسلم، إذ يعكس هؤلاء في رفضهم للصفقة موقفا مستمدا من ثقافة “الهيمنة والوصاية”، أي من فكر مستند إلى رؤية عقائدية/نهائية تجاه أي موقف يتعلق بكيفية معالجة القضية الفلسطينية، فهي قضية العرب والعروبة وشأن إسلامي أممي قبل أن تكون شأنا فلسطينيا، لذا تبدو الحلول بشأنها تاريخية غير واقعية، ومبنية على الشعارات العقائدية.

هذا الموقف، الأيديولوجي، العقائدي، المرتبط بثقافة “الهيمنة”، يجعل أهل القضية الفلسطينية على علاقة ثانوية بها، ويحيل القضية إلى أن تكون أسيرة علاقة “أبوية”، فيصبح الشعب الفلسطيني وكأنه مجموعة من الأبناء الخاضعين لأوامر “الأب”.

ونظرة سريعة على تصريحات بعض الشخصيات العربية والمسلمة، من زعماء ورؤساء دول وحكومات وقيادات حركية ومفكرين وأكاديميين وحزبيين، توضح وبشكل جلي أن القضية وحلولها تخضع لهذه الهيمنة ولفكر وثقافة هذه القيادات وأتباعها في حين كان على هؤلاء، بل وعلى جميع المهتمين بالقضية، أن يسيروا خلف الفلسطينيين لا أمامهم، أن ينصحوهم لا أن يملوا عليهم الأوامر والحلول، أن يعبّروا عن تضامنهم مع الإنسان الفلسطيني ويتعاطفوا معه لا أن يرسموا مشهدا أيديولوجيا يكون فيه الفلسطيني تابعا لهؤلاء ومستسلما لعقائدهم.

لذا، ماذا يمكن أن تكون ردود أفعال “مجموعة الوصاية والهيمنة” إذا افترضنا أن الفلسطينيين وافقوا على “صفقة القرن” وقبلوا التفاوض حولها مع الجانب الإسرائيلي؟ رد الفعل الواقعي المفترض، المتحرّر من أي تبعات خضوع واستسلام، هو أن يعين الجميع الموقف الفلسطيني أيا كان، غير أن “مجموعة الهيمنة” في واقع الحال ووفقا لما هو سائد في أذهانهم، سوف يتهمون الفلسطينيين بخيانة القضية، وبعبارة أدق سيتهمونهم بخيانة “أفكارهم” حول القضية والتي جعلتهم أوصياء عليها بدلا من أن تكون الكلمة الأولى والأخيرة للفلسطينيين.

هذه المواقف تحيلنا من جانب آخر لطرح السؤال التالي: إذن ما هي حقوق الفلسطينيين التي يمكن أن تتحقق على أرض الواقع؟

سواء قبِل الفلسطينيون أو رفضوا “صفقة القرن” فذلك قرارهم، وهم من يتحمّل تبعاته، وتقع على عاتقهم مسؤولية اتخاذ أي موقف. فالقضية ليست مُلكا للأيديولوجيات الوصائية وعقائدها والتي ساهمت ليس فحسب في تراجع فرص تحقيق سلام للفلسطينيين بل في تراجع حال المجتمعات العربية، حيث ارتفعت شعارات التحرر في حين هي لم تكن إلا إنعكاسا لثقاقة الهيمنة. فكيف لهذه الثقافة أن تضع حلا لتحرير شعب، فيما هي لا ترتاح ولا تستكين إلا عن طريق احتلال العقول والهيمنة عليها؟..

فاخر السلطان