محليات

“القوى المرجحة”: نهج جديد لتاريخ الكويت الحديث

مقال كتبه الباحث الكويتي، عبدالرحمن الإبراهيم، والحاصل على درجة الدكتوراة في التاريخ من معهد الدراسات العربية والإسلامية في جامعة اكستر ويتناول فيه ما أسماه “القوى المرجحة” والتي لعبت دوراً مهماً في التاريخ الكويت السياسي.

منذ عام 2011، كشف الربيع العربي عن رغبة ساحقة بين سكان الدول العربية لإدخال تغييرات سياسية واقتصادية واجتماعية. على الرغم من أن هذا الاتجاه وصل إلى دول الخليج، إلا أنه لم يكن له تأثير جوهري على هياكلها السياسية كما هو الحال في دول مثل مصر وتونس وليبيا.

ومع ذلك، اندلعت احتجاجات متفرقة في أربعة من دول مجلس التعاون الخليجي الست، وهي المملكة العربية السعودية والكويت وعمان والبحرين. علاوة على ذلك، أثار الربيع العربي جدلاً بين المثقفين حول الجذور الفعلية لهذه الحركات في التاريخ المحلي الحديث، مما دفعني إلى إعادة النظر في تاريخ التطور الدستوري في بلدي الكويت.

بعد بضع سنوات، أثناء صياغة الفكرة لأطروحة دكتوراه، أصبح ذهني مشغولًا مع التطبيق العملي للكتابة عن التاريخ الكويتي. انطلق عدد من الأسئلة إلى الذهن: هل تاريخ الكويت مهم؟ هل كتب تاريخنا بشكل صحيح؟ لماذا نجد التكرار في الأدبيات الموجودة عن تاريخ الكويت باللغتين العربية والإنجليزية؟ لماذا يرتبط التحليل في الغالب بفئتين: الشيوخ – أي أولئك الذين ينتمون إلى الأسرة الحاكمة – والتجار؟ هل كان للفئات الاجتماعية الأخرى تأثير على المشهد السياسي؟ ولماذا لم يتم ذكرها في المصادر التاريخية التي تتناول التاريخ المحلي؟

قادني بحثي إلى مدرسة الحوليات الفرنسية، التي وفرت نقطة البداية لتفكيري. لم تؤمن هذه المدرسة بالثالوث المقدس للفرد والسياسة والكتابة التاريخية للتاريخ. بدلا من ذلك، توسعت لتشمل مجالات أخرى. حفزني هذا التفكير خارج الإطار التاريخي المعتاد على التفكير في سبب تهميش الفئات الاجتماعية بخلاف الشيوخ والتجار في تاريخ الكويت السياسي.

قادني هذا إلى صياغة إطار تحليلي جديد، أسميته “القوى المرجحة”. أطبق هذا التصنيف على الفئات الاجتماعية التي كان لها تأثير على التاريخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي للكويت، لكن المؤرخين ذكروها من حين لآخر دون الإشارة إلى أدوارهم وعلاقاتهم مع عناصر المجتمع الأخرى.

كان هدفي في كتابة رسالتي هو إظهار فعالية “القوى المرجحة”. ومع مرور الوقت وتغيير العوامل، أصبحت هذه القوى لاعبين رئيسيين في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعامل ثالث فعال في المشهد السياسي إلى جانب الشيوخ والتجار. تهدف هذه المقالة إلى تعريف فكرة “القوى المرجحة” في الكويت، وتحديد المراحل الثلاث التي مرت بها هذه السلطات حتى إصدار دستور البلاد عام 1962.

في أوائل عام 1716، ظهر عقد اجتماعي غير مكتوب بين القوى الاجتماعية الكويتية – بما في ذلك الأسرة الحاكمة – على أساس نظام الشورى الإسلامي الذي يفوض التشاور بين الحاكم والنخبة. خلال حكم مبارك الصباح (1896-1915)، تم استبدال نظام الشورى التقليدي بنظام استبدادي استمر حتى انتهاء حكم ابنه سالم بوفاته عام 1921. وبعد ذلك، قامت مجموعة من التجار الكويتيين وعلماء الدين والأسرة الحاكمة بالطلب من الحاكم الجديد، أحمد الجابر الصباح (الذي حكم من 1921-1950)، استعادة نظام الشورى. وقد مهد ذلك الطريق لأول وثيقة دستورية مكتوبة في الكويت عام 1921 ومجلس استشاري يتكون من التجار وعلماء الدين.

استمر مجلس الشورى لعام 1921 والحكم الدستوري ستة أشهر فقط قبل استعادة الاستبداد. في نهاية المطاف، سعى التجار و “القوى المرجحة” مرة أخرى إلى إحياء نظام الشورى القديم. وأدى ذلك إلى إنشاء أول مجلس تشريعي كويتي في عام 1938، مما أدى إلى صياغة الوثيقة الدستورية الثانية في الكويت التي منحت سلطة واسعة للمجلس. ومع ذلك، تم حل المجلس أيضًا مرة أخرى بسبب الصراعات بين المكونات الاجتماعية المختلفة، مثل الكويتيين من أصل إيراني والعديد من العائلات التجارية. في أواخر عام 1938، أجريت انتخابات جديدة للمجلس التشريعي الثاني، والتي سيطر عليها التجار مرة أخرى. في أوائل عام 1939، أعد هذا المجلس مسودة دستور جديد أكثر شمولاً للكويت. لكن الحاكم رفضها وطلب من الوكيل السياسي البريطاني نسخة من الدستور الأردني. على أساسه، صاغ دستورًا جديدًا استخدم فيه معظم السلطة، بما في ذلك حق النقض. رفض أعضاء المجلس الموافقة على مشروع الدستور هذا، مما دفع الحاكم إلى حل المجلس بشكل دائم في مارس 1939.

في عام 1938، دخلت الكويت حقبة جديدة من التحول حيث ازدهر الاقتصاد – الذي كان يعتمد في السابق على التجارة وصيد الأسماك والغوص على اللؤلؤ – بسبب إنتاج النفط. أدت الزيادة في عائدات النفط إلى تغييرات أساسية في المجتمع، مما جعلها أكثر حداثة. وقد أدى ذلك أيضًا إلى اتفاقية جديدة بين الأسرة الحاكمة والتجار والقوى المرجحة المختلفة التي توجت في نهاية المطاف بصياغة الدستور الرابع في عام 1962 بعد استقلال الكويت.

على الرغم من أن الوثائق الدستورية لعامي 1921 و 1938 أعادت إحياء نظام الشورى الذي كان قائماً قبل عهد مبارك، فإن دستور عام 1939 الذي لم يوافق عليه المجلس التشريعي حدد النغمة للترتيب الدستوري القادم. يعكس دستور 1939 اكتشاف النفط والانهيار الوشيك للنظام الاقتصادي القديم، وقد ركز دستور 1939 معظم السلطة في يد الحاكم. وبالتالي يمكن اعتباره حجر الأساس للدستور الحالي، المعتمد في عام 1962، كدستور مكتوب حديث يعتمد على بعض المبادئ الديمقراطية.

تقتصر القصة السائدة عن التطور الدستوري والتاريخي في الكويت على قصة الأسرة الحاكمة والطبقة التجارية، بافتراض أنهم القوتان الوحيدتان الفعالتان في التاريخ السياسي للبلاد. هذا لا يعكس بدقة دور وتأثير شرائح أخرى من المجتمع الكويتي في عملية صنع القرار السياسي طوال تاريخ البلاد. لذلك، من المهم فهم تطور العلاقات بين الأسرة الحاكمة والتجار والقوى الاجتماعية والسياسية الأخرى.

يشكل مفهوم “القوى المرجحة” رؤية جديدة في تاريخ الكويت تستكشف دور مختلف شرائح المجتمع التي أهملها العلماء في الماضي. لا يعني مصطلح “القوى المرجحة” قوة اجتماعية موحدة ذات إرادة أو خصائص مشتركة. بل هو مفهوم شامل وعام يشمل مختلف القوى الاجتماعية والسياسية التي لعبت دورًا حيويًا في الحياة السياسية في الكويت منذ بداية القرن العشرين حتى التصديق على دستور 1962.

لذلك، فإن الفئات التي تشكل “القوى المرجحة” متعددة، وتشمل: علماء الدين، غواصو اللؤلؤ، الطبقة العاملة، البدو، القرويون، الشيعة (العرب والفرس) والمثقفين. على الرغم من أن هذه السلطات مرت بثلاث مراحل مختلفة من حيث تأثيرها السياسي، إلا أن دورها في تحقيق التوازن بين قوة العنصرين الرئيسيين، الشيوخ والتجار، كان دائمًا مهمًا.

شكل دور هذه القوى في البداية عنصرًا ثانويًا من الحياة السياسية في الكويت، وتطور دوره تدريجيًا حتى أصبحت لاعبين سياسيين رئيسيين في عام 1962. وقدمت هذه المجموعات الغالبية العظمى من المرشحين ومعظم الأعضاء المنتخبين في الجمعية التأسيسية لعام 1961، وهم الذين صوتوا لصالح دستور 1962.

لم تمارس “القوى المرجحة” نفوذها فقط من خلال المؤسسات التمثيلية. في الواقع، بصرف النظر عن مشاركة علماء الدين في مجلس الشورى الأول عام 1921، كانت هذه القوى تمارس تأثيرها السياسي بشكل رئيسي من خلال التعبئة السياسية ودعم إحدى القوتين الرئيسيتين: التجار أو الشيوخ.

تم تمثيل الشيوخ والتجار فقط في المجالس التشريعية لعامي 1938 و 1939. ومع ذلك، لعبت “القوى المرجحة” دورًا حاسمًا في إنشاء وحل هاتين المؤسستين. دعم المثقفون والشباب أعضاء المجلس، الذين كانوا تجارًا بشكل رئيسي، من خلال المظاهرات وأشكال أخرى من التعبئة السياسية. على سبيل المثال، شكلوا منظمة سياسية تعرف باسم كتلة الشباب الوطنية. من ناحية أخرى، دعم القرويون والبدو والشيعة الحاكم.

يمكن تقسيم تطور “القوى المرجحة” إلى ثلاث مراحل، وفقًا للأحداث الأساسية في التاريخ السياسي للكويت. في عهد مبارك الصباح، كانت هناك علامات واضحة على تورط هذه القوى في السياسة. تبلور تأثيرهم خلال الأحداث المحيطة بهجرة العديد من أبرز تجار اللؤلؤ الكويتيين إلى البحرين في عام 1910 بعد نزاع مع الحاكم. هدد غواصو اللؤلؤ، الذين يمثلون “القوى المرجحة”، باتباع التجار إلى المنفى، الأمر الذي كان محوريًا في تعزيز يد التجار ضد الشيخ مبارك. ونتيجة لذلك، اضطر الحاكم إلى الاستسلام لمطالب التجار.

قرب نهاية عهد مبارك، ظهر دور علماء الدين في معارضة الحاكم وحلفائه التجار، خاصة عندما حرضوا الناس على رفض أوامر مبارك لمساعدة البريطانيين ضد الإمبراطورية العثمانية. يمكن اعتبار أصحاب وجهات النظر الحديثة، مثل عبد العزيز الرشيد ويوسف القناعي، رواد الطبقة الفكرية في الكويت.

بدأت المرحلة الثانية من تطور دور “القوى المرجحة” عام 1921 مع حكم أحمد الجابر. وقد ازداد نفوذهم خلال هذه الفترة، والتي اتسمت بالتغيرات السريعة الناتجة عن اكتشاف النفط، وتأثير القوميين العرب، وإنشاء المدارس الحديثة، وظهور المؤسسات الثقافية مثل المكتبة الوطنية والنادي الأدبي.

تميزت هذه العقود أيضًا بظهور مؤسسات الدولة الحديثة، بما في ذلك مجلس الشورى الأول في عام 1921 والمجالس التشريعية في عامي 1938 و 1939. وبعد حل الأخير، شكل الحاكم مجلس شورى جديد. تم إنشاء مجالس أخرى لتقديم الخدمات الاجتماعية، بما في ذلك المجلس البلدي لعام 1930، ومجلس التعليم لعام 1936، ومجالس الصحة والأوقاف الإسلامية في الأربعينيات. مع التوسع في التعليم ووفرة عائدات النفط، أصبح الدور التاريخي لـ “القوى المرجحة” أكثر وضوحًا. للتنافس على السلطة، استخدم كل من الشيوخ والتجار عناصر مختلفة من “القوى المرجحة” لإثبات التوازن لصالحهم.

بدأت المرحلة الثالثة من تطور “القوى المرجحة” في أوائل الخمسينات، وتزامنت مع حدثين مهمين في تاريخ الكويت. أولاً، توسع جهاز الدولة بشكل كبير بعد زيادة الثروة النفطية. بعض “القوى المرجحة” مثل غواصين اللؤلؤ والبحارة، الذين كانوا موالين سابقًا للتجار بصفتهم أرباب عملهم، أصبحوا يعتمدون الآن على الأسرة الحاكمة في معيشتهم. التطور الثاني كان ظهور المثقفين في طليعة حركة جديدة تعارض الأسرة الحاكمة. بدأت هذه المجموعة في التوسع في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين عندما تطور النظام التعليمي في الكويت بشكل ملحوظ مع وصول المعلمين الفلسطينيين والمصريين. وهكذا، شهدت هذه المرحلة الثالثة ظهور “القوى المرجحة” كقوة سياسية فعالة على حساب الطبقة التجارية التقليدية. كما ذكر من قبل، أصبح هذا واضحًا في المجلس التأسيسي لعام 1961.

وبالتالي يمكن تحديد ثلاث مراحل في التطور السياسي لـ “القوى المرجحة”: كانت المرحلة الأولى هي “التكوين”، عندما كانت هذه العناصر من أتباع القوتين الرئيسيتين: الشيوخ والتجار، دون القدرة على تغيير المشهد السياسي. كانت المرحلة الثانية هي مرحلة “النمو”، التي ساهموا خلالها مباشرة في المشهد السياسي، على الرغم من أنهم لم يلعبوا دورًا مباشرًا في عملية صنع القرار. المرحلة الثالثة كانت مرحلة “التمكين”، عندما أصبحت “القوى المرجحة” جزءًا من اللعبة السياسية ولعبت دورًا محوريًا في صياغة دستور عام 1962.

على الرغم من أن هذه القوى الاجتماعية لعبت دورًا محوريًا في التطور الدستوري في الكويت إلى جانب الشيوخ والتجار، إلا أنه ليس من السهل دراسة المجموعات التي تشكل “القوى المرجحة”. لا يوجد فقط تداخل كبير بين المجموعات الاجتماعية المختلفة ولكن هناك أيضًا نقص في الوثائق والإحصاءات المحلية التفصيلية المتعلقة بها كما أوجزت في كتابي حول هذا الموضوع.

وبالتالي يجب على الباحثين التعمق في دراسة تاريخ الخليج العربي باستخدام طرق مختلفة ووجهات نظر غير تقليدية. لا يجب أن تنظر الدراسات والبحوث التاريخية إلى دور المجموعات الأقل قوة على أنها هامشية، بل يجب بذل جهد لإعادة صياغة التأريخ للكويت بشكل خاص والخليج بشكل عام.

وفي هذا الصدد، من المطمئن أن جيلًا جديدًا من الباحثين الخليجيين أصبحوا على وعي بهذه المشكلة. لقد بدأوا في جعل صوتهم مسموعًا من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ونشروا مقالات وكتبًا تقدم منظورات تختلف عن تلك الخاصة بالأدب الراسخ المكتوب خلال السبعينيات والثمانينيات.

3 تعليقات

  • التاريخ يعيد نفسه والدليل واقعنا اليوم مع كورونا وطمع بعض التجار وخسائرهم وعدم مصداقية البعض منهم وحفظ ثروات هذا البلد ناهيك عن زعزعة الأمن بسبب المناصب وحب المال والله المستعان وكثرة البحث في التاريخ تتعب نفسيا وتحارب سياسيا حفظك الله أينما كنت

  • مازال الطمع موجود والدليل واقعنا مع كورونا والتاريخ يعيد نفسه وهذ دليل على حب المناصب القيادية والمال والفكر في الماضي مرير والمحاربة على الحاضر والقادم كثير من الناحية السياسية والأمنية وحفظك الله أينما كنت

  • لعدم وجود الرجعية ليس للكويت فحسب وإنما لمختلف العالم العربي ومن خلفه الأمة المسلمة الي ظهور الأنظمة والتي كانت موجودة سواءً في المشرق كالهند والصين او ماكان في أوروبا في العصور الوسطى وحتى ظهور حركة النهضة
    وبعدها ظهر ت المرجعيات التي بذل لاجلها الكثير وتم ترسيخها حتى أصبحت طواطم تعبد هنا كفت إياد كثيرة على ان تعبث وهذا ما اكسب الناس في مجملهم قوى انتصب كالسدود في مواجهة الطبقات الاجتماعية المختلفة والمتفاوتة من التمكين واستلاب خيوط اللعبة بايديهم
    ومن هذا المنطلق نجحت في التاريخ البشري نماذج لاعتناقها ذلك
    ومنها بل ومن ابرزها نصاعة دولة الرسول صلى الله عليه وسلم ودولة الخلافة الراشدة وعندما وهنت برهة من الزمن عادت بزمن عمر بن عبدالعزيز
    وبدأت تراخي بمرور الوقت
    وهكذا فالفكرة واعتناقها والتضحية في الإقناع بها والبذل هي من يوجد المجتمع والسلطة المتوازنة
    والكويت ليست استثناء من القاعدة

أضغط هنا لإضافة تعليق