كتاب سبر

أبو علي الشيخ الرئيس ابن التاجر

هناك خلاف بين المتخصصين حول كلمة شيخ سواء في (العرف السياسي والاجتماعي) أو حتى في (اللغة والمعاجم)، فلان شيخ قبيلة أو شيخ بلدة ونحوه، إذ أن اللغة هنا تجعل (المشيخة) بمثابة مقام سلطة مظنة لمقتضيات العمر وما يترافق معها من اكتساب الرجل (الحكمة والخبرة) فمن تشيخ فهو حتماً قد بلغ قدراً من الحكمة وعليه فإن (شاخ الرجل) في قومه فلابد أن يتأسى فعله بفعل من هم على دراية وخبره وتجربة، في المقابل وأعني (العرف) فالشيخة قد يتسع مجالها ليشمل إضافة للعمر الارتباط بالمفهوم المتخيل عن (السلطة).

بالمناسبة وفي بعض البلدان بالخليج قد يحصل التاجر على لقب (شيخ) إذا ارتبط بالمال والتجارة أو امتلأت حساباته وأرصدته في البنوك فيصبح حينها شيخا (بماله)، لذا فالبعض (من الأسر الحاكمة فيها) قد يتجنب وصف أفراده (بالشيوخ) مطلقاً عليهم لقب (الأمير أو غير ذلك) تجنباً لاختلاط مفهوم (الشيخ من السلطة) مع (الشيخ من التجارة).

ان شيخة التاجر إذا تمكنت من السلطة اضطرب الامر على الناس وأصبح فعل الشيخة ليس مسوق بحكمة شيوخ الزمن والسن بل بنهم جمع المال وحنكة التجار تختلف عن حكمة شيوخ السن لأنها حكمة مناطها الكسب من كل حال، لذلك شيخة التاجر بمعنى السلطة خطر واضح وجلي في كل مراحل التجربة البشرية.

وحتى لا تصنف المقالة أنها سياسية وقبل أن يتحسس البعض أنوه. (هذا السياق فقط مستحضر للحديث عن (الشيخ الرئيس)، وهو الشخص الذي جمع بين (المشيخة والرئاسة) فكيف تمكن من الجمع بين اللقبين؟ هل سرق أم تلاعب ليجمعهما هذا ما نحتاج أن نتناوله بقدر المساحة المتاحة لنا هنا.

أولا هو أبو علي (ابن سينا) ابن تاجر عاون أبوه في التجارة، شاب ذكي طموح، ارتبط مبكراً في حياته بالأمير (نوح الساماني 378 هـ) حيث عالجه وقدم له خدماته وأصيح أحد أطباء (البلاط) مما فتح له أبواب خزائن المعارف (والمكتبات السامانية) ليكتشف هذا الشاب وبسرعة أنه وإن كان العلم والتجارة مهمة إلا أن عناصر النجاح ستظل معلقة بالقدرة على كسب ثقة الأمراء وخدمتهم والعمل تحت عباءتهم وأن هذا هو السبيل الأسرع والأقصر نحو طريق الرئاسة أو ما نعنيه هنا تحديداً (الشياخة).

ظل (أبو علي) (الشيخ الرئيس) في ظل تلك العلاقة ممسكاً بأدوات السلطة وحوافزها لكن توفى الأمير (نوح الساماني) ليضطر بعدها (الشيخ الرئيس) أن يبحث عن ولي نعمة أخر يعطيه نفس الميزات التي كان يتمتع بها حيث تنقل في بلاط السلطة بين أمراء السامانيين، ومن ثم انتقل إلى الغزنويين وأمراء البويهيين (على خلافاتهم)، المثير أن خدماته التي كان يقدمها لأي سلطة يعمل معها كانت مصدر مشاكلة أيضاً كلما تغيرت هذه السلطة أو تغير أميرها.

على كل حال ومع نيل أبو علي المزيد من المكانة بالقرب من السلطة إلا أن الخلافات والصراعات أصبح معها هو نفسه لاحقاً ضحية للصراع والمشاكل أو بمعنى أدق الانكسار على سلم السلطة، صراعات كان يمكن بدونها لو استمر في التجارة (مهنة والده) أو العلم (الطب) وبعيداً عن السلطة لعل الاستفادة والنتاج كان أعظم إذ لا ننسى أنه أنتج في هذه الفترة كتابه العظيم القانون في الطب الذي أهله لنيل لقب (أمير الأطباء) وأبو الطب الحديث في العصور الوسطى.

عموماً النظر لسيرة حياة وشخصية (الشيخ الرئيس) ومع كل تلك العداوات التي ظهرت له نظير ارتباطه بالسلطة والعمل تحت عباءتها قد تكون جعلته مصنفاً في المقبحين سياسيا لدى الباحثين في تاريخ هذه الشخصية ، على النقيض من ذلك المشهد يمكن القول أن ما خلد نفس الشخصية إنتاجه الغزير من العلوم والمعارف التي وصلت لما يقارب 200 كتاب ، أخيراً ليتخيل معي القارئ أن أبا علي (الشيخ الرئيس) لم يقدم أيه مؤلفات أو نتاج علمي تستفيد منه البشرية ، وقتها هل كانت تجارة والدة وحذلقاته السياسية وعبثه وخدمته للبلاط سيقدم له أي أرث إنساني يسجله له التاريخ ؟ لا جدال، (ونحن شهود) ، أن الاجابة (لا) ، وعليه هنا تحديداً يمكننا تقدير قيمة العلم وشرف المنتسبين له .

عبدالهادي العجمي

@DrAbdulhadiAjmi

تعليق واحد

  • أحسنت دكتورنا على هذه المقاله الذكيه الواقعيه .
    أعتقد أن اسقاط الوقائع أو الشخوص التاريخيه على واقعنا في هذا الزمان يثبت بما لايدع أي مجال للشك أن التكرار التاريخي أو دروس التاريخ هي نافذه يبصر من خلالها القارئ المتعمق بالتاريخ نهاية كل حقبه أو شخصيه في زماننا والله أعلم .

أضغط هنا لإضافة تعليق