كتاب سبر

قانون الافلاس الجديد وسقطة الغاء حبس المدين.. صورة أخرى من صور انحدار العمل التشريعي ..

فكرة القانون ليست جديدة و انما هي محل بحث و اعداد منذ ٢٠١٢ أي منذ مرحلة بدأ التعافي والافاقة من آثار الأزمة المالية العالمية .. فالقانون جاء ليحاكي نظام الافلاس الامريكي أو ما يسمى ب chapter 11 .. وهو نظام في مجمله جيد ومطلوب .. إذ أن نظام قانون الافلاس كما هو مستقر ينطبق حصراً على التجار والشركات التجارية ( وهي تاجر بحكم القانون) و ينظم القانون بوجه عام حالة تعثر التاجر في مواجهة ديونه ومدى امكانية اعادة جدولة تلك الديون والسداد مع محاولة ابقاء العمل أو الكيان التجاري قائماً والا انتهى الأمر الى افلاس التاجر أو الشركة بعد المرور باجراءات قضائية و محاسبية منظمة وعادلة توازن بين أصول التاجر و حقوق الدائنين ..وقد سبق هذا القانون صدور القانون رقم ٢/ ٢٠٠٩ بشأن تعزيز الاستقرار المالي للدولة بمفهوم و أغراض تدور في نفس الاطار والذي شاركت شخصياً في تقديم أول مجموعة طلبات اعادة هيكلة لمجموعة من الشركات وفق ذلك القانون .. الذي كان مقتصراً فقط على الشركات المالية والبنوك .. في حين أن قانون الافلاس الجديد جاء ليشمل كل التجار أفراداً أو شركات مالية أو غير مالية ..

وبالنظر الى القانون الجديد فإن أول ما يلاحظه المتخصص هو أنه أشبه بمحاكاة للقانون الامريكي .. وهو نهج تشريعي تكرر في السنوات الأخيرة باستحضار تشريعات أجنبية ( غالباً أمريكية-وفق النظام الانجلوسكسوني الذي يبدأ بالتعريفات ويميل الى تنظيم كثير من التفاصيل و تضييق نطاق السلطة التقديرية للمحكمة ) .. واذا كانت محاكاة التشريعات الاجنبية مبعثها الاستفادة من التطور التشريعي لدى الجانب الآخر من العالم سيما في التشريعات الاقتصادية .. الا أن هذه المهمة محفوفة أحيانا بالمخاطر .. فالتشريعات الاجنبية جزء من منظومة تشريعية متشعبة ومتناغمة في حين أننا اعتدنا استحضار بعض التشريعات دون أن ندرك أن هذا التشريع يحتاج الى بيئة تشريعية متكاملة لينسجم معها .. الأمر الذي أوقع من أصدر قانون الافلاس الجديد بعد مجهود جيد في خطأ تشريعي فادح ..
فقد ورد في ديباجة القانون الجديد الاشارة الى ثلاثين قانون سابق( وهي الأرضية التشريعية التي يفترض أن ينسجم أو ربما يتعارض معها القانون الجديد ) ثم جاءت المادة الخامسة لتلغي قانون تعزيز الاستقرار المالي و أحكام الافلاس في قانون التجارة وهذا طبيعي ومفهوم .. الا أن الغريب جداً أن ذات المادة ألغت الغاءً مطلقا نصوص قانون المرافعات ( المواد من ٢٩٣-٢٩٦ ) التي تنظم حبس المدين و هي أهم وسيلة من وسائل التنفيذ الجبري للأحكام والسندات التنفيذية .. وهنا وقعت السقطة والمشكلة الكبرى .. الأمر الذي يجعلنا نبدي الملاحظات التالية:

-قانون الافلاس الجديد في مجمله جيد وضروري وان كانت نصوصه بحاجة الى قراءة قانونية متأنية سيما وأن البرلمان السابق الذي أصدره لم يمارس بشكل حقيقي مفهوم المداولة الثانية قبل اصداره .

-كما لفت انتباهي أن قانون الافلاس صدر ليطبق على كل الديون حتى السابقة على صدوره … وهي مسألة بحاجة الى اعادة تفكير .. على الأقل حتى يمكن للجميع مراعاة أحكام هذا القانون في تعاملاتهم المستقبلية .. ومن الامثلة الجيدة التي تراعي وقت نشأة الدين ما تضمنه نص المادة ٢١٦ مرافعات من عدم جواز الحجز على السكن الخاص الوحيد المملوك للمواطن بشرط أن يكون شاغلاً لهذا السكن قبل نشأة الدين .

-المشكلة الرئيسة في القانون تتمثل في الغاء نصوص حبس المدين الغاءً مجرداً بصرف النظر عن تعارضها مع قانون الافلاس من عدمه .. واذا كان قانون الافلاس متعلق بالتجار فما علاقة الديون غير التجارية أو المدنية بهذا القانون ؟!! وللقارئ أن يتصور – على سبيل المثال – كيف يمكن تحصيل احكام النفقة او الحقوق العمالية أو الايجارات أو حتى أحكام التعويض بعد الغاء أهم وسيلة قانونية لتحصيل تلك الحقوق ؟؟

و رغم حجّة البعض أنه من الممكن للتاجر أن يتحوط بأي ضمان قبل نشوء الدين التجاري اما برهن أو كفالة .. فان ذلك غير ممكن عقلاً بالنسبة للزوجة أو العامل أو المجني عليه بجريمة .. واذا عجز ملاك العقار عن تحصيل الاجرة فكيف سيواجهون الاستحقاقات البنكية التي ستنتهي لا محالة بدعاوى مزاد علني تقيمها البنوك لبيع عقاراتهم تحصيلا للديون مما سيضعف الدورة الاقتصادية للقطاع العقاري و يجعله استثمار عالي المخاطر !!

وفضلاً عن ذلك فان الجميع يعلم كم هو من السهل لأي مدين أن يقوم بنقل أمواله واخفائها بتصرفات صورية او ربما حقيقية لافقاد الدائن الضمان !! ولا يمكن مواجهة ذلك الا بدعاوى عدم النفاذ او الصورية وهي دعاوى موضوعية تتطلب دفع رسوم قضائية باهظة تستغرق سنوات .. الأمر الذي سيرتب نتيجة حتمية على الغاء نصوص حبس المدين وهي أن تتحول الكثير من الأحكام القضائية والسندات التنفيذية الى حبر على ورق ..

واذا كنا ندرك أن قانون المرافعات و قواعد التنفيذ بما فيها قواعد حبس المدين المدين بحاجة الى تعديلات تشريعية و ضبط للشروط سيما التأكيد على شرط ملاءة المدين و عبء الاثبات في هذه المسألة قبل اصدار أمر الحبس.. الا أن الغاء آلية حبس المدين وفقاً لما ورد في قانون الافلاس سيترتب عليه آثار اجتماعية ومالية جسيمة و ربما قد يحدث ما لا يحمد عقباه في العلاقة بين الدائن والمدين !!

د. يوسف الحربش

تعليق واحد

أضغط هنا لإضافة تعليق

اترك رداً على غير معروف إلغاء الرد