آراؤهم

حكومة الأقلية لا تخلق استقرارا.. متى يعي العقلاء ذلك؟

لا يشترط في النظام السياسي الكويتي تجاوز الحكومة لنيل الثقة من مجلس الأمة وإنما تباشر عملها فقط بأداء القسم أمام أمير البلاد وتاليا تؤدي القسم في مجلس الأمة فقط ليستطيع الوزراء حضور الجلسات والمشاركة في أعمال المجلس.

وفي هذا النظام تمتلك الحكومة دوما كتلة تصويتية تمكنها من تمرير كل القوانين والمقترحات التي تريدها والتي تستوجب امتلاك النصف + واحد من العدد الإجمالي لأعضاء مجلس الأمة والذي عادة ما يكون 65 عضوا يشكلون 49 نائبا منتخبا و16 وزيرا بينهم أحد النواب وعليه فإن الحكومة دوما لا تحتاج إلا لـ 17 نائبا منتخبا فقط لتكون لها هذه الأغلبية.. وهو ما سار عليه العمل في كل مجالس الأمة المنقضية قبل أن تستحدث حكومة الشيخ ناصر المحمد بعد مماحكات مع النواب بدعة تطويق الاستجوابات التي يقدمها النواب لرئيس الحكومة ووزرائها بطرق ثلاثة أولها التأجيل إلى أمد بعيد والثاني الإحالة للجنة التشريعية والثالث اللجوء للمحكمة الدستورية وفي جميعها قطف النهج الحكومي ثمار مهمة في تحجيم هذه الأداة التي كانت في وقت سابق السبيل الوحيد المتاح أمام النواب لدفع الحكومة إما إلى الاستقالة أو الدعوة لانتخابات مبكرة.

أداة الاستجواب المنصوص عليها في الدستور هي السبيل الوحيد لمعرفة ما إذا كانت الحكومة حائزة لثقة البرلمان من عدمها.. إذ يحظر عليها في هذه الحالة وبمن فيها الوزير المنتخب التصويت على طلب طرح الثقة بالوزير المستجوب ويمنح النواب المنتخبون فقط هذا الحق ما يعني أن حجب الثقة يتطلب تصويت 25 نائبا فقط ليصبح الوزير المستجوب معزولا من عمله.. وهو ما يطبق على رئيس الوزراء الذي يعلن ذات العدد عدم التعاون معه ليصبح الأمير عندها أمام خيارين إما استقالة الحكومة وتعيين رئيس وزراء جديد أو الدعوة لانتخابات مبكرة وحينها إذا اختار البرلمان الجديد عدم التعاون مع رئيس الوزراء ذاته أصبح معزولا ولا يكون متاحا إلا خيار تعيين رئيس وزراء جديد.
العمل على هذه الآلية استمر لعقود وكانت الحكومات المتعاقبة تعمل وفق هذا النهج المتمثل بتأمين أغلبية تتيح لها تمرير ما تريد إلى أن وجد رئيس الحكومة السابق الشيخ ناصر المحمد عدم قدرته على تأمين جانبه أمام كتلة نيابية تريد الإيقاع به وبعدما استنفذ الخيارات المتاحة له وفق النهج التقليدي من تعديل وزراي أو استقالة حكومية أو دعوة لانتخابات جديدة خلال الفترة الممتدة من 2007 وحتى 2009 كان لا بد من خيارات أخرى تجنبه الاستفتاء على رصيده الشعبي خاصة إذا ما كان ذلك بمثابة عائق أمام طموح سياسي أعلى مرتبة من رئيس وزراء… وكان ذلك عبر ثلاث طرق أولها اللجوء إلى القضاء الدستوري للفصل في مدى دستورية مساءلته وهو ما منح القضاء سلطة إضافية في تقييد حق النواب ورسم حدودا ضيقة لممارسة هذا الحق تجاه رئيس الوزراء وثانيها بتحويل صحيفة الاستجواب إلى اللجنة التشريعية للفصل في مدى دستورية مساءلة رئيس الوزراء في القضايا الواردة بها.. وهو ما يتيح للحكومة الحق في التصويت على تقرير اللجنة التشريعية بما يعني الالتفاف على عدم جواز مشاركة الحكومة في توجيه دفة الاستجوابات بما يؤمن لها تجاوزه في كل مرة… أما الثالثة فمناقشة الاستجواب في جلسة سرية تتيح للنواب المترددين الاستجابة للضغوط الحكومية وعدم الانسياق لموجة الضغط الشعبي المصاحبة لهذه المساءلة السياسية.
هذه الخيارات لاحقا ولدت سخطا شعبيا مرده أن ذلك يحد من الرقابة الشعبية ويطلق يد الحكومة في اتخاذ القرارات والبرامج التي تريد دون خشية محاسبة حقيقية وجادة ومؤثرة لها من قبل البرلمان.. وهو ما أسفر عن التزام نيابي توسع شيئا فشيئا باتجاه لاءات ثلاث مفادها: لا للدستورية، لا للتشريعية ولا للسرية عند مناقشة أي استجواب.. وهو ما سار عليه مجلس 2016 إلا أن ذلك لم يكن في صالح هذا المجلس الذي وصم بأنه حكومي صرف لم تمتلك المعارضة فيه القدرة على الوصول إلى الرقم المقلق الذي تخشاه الحكومة والذي يفضح ما إذا كانت حكومة أقلية أو حكومة أغلبية.. وهو ما تكشف في مجلس 2020 حينما وجدت الحكومة أنها بلا غطاء نيابي يأمن رئيسها ووزرائه من مغبة عدم التعاون أو طرح الثقة عند مناقشة الاستجوابات المقدمة لهم ليستحدث رئيس الوزراء بدعة جديدة تمثلت بطلبه تأجيل الاستجوابات المقدمة إليه أو التي يزمع تقديمها إلى نهاية دور انعقاد لاحق وهو ما حدا بالمعارضة إلى التصعيد معه ومنع انعقاد الجلسات البرلمانية إلا بعد سحب هذا الطلب وكان خطأ المعارضة القاتل حسب رأيي قبولها عقد جلسات خاصة تحت وطأة أن ذلك قد يجلب عليها سخطا شعبيا لحساسية القضايا المطروحة فيها والتي كان من أهمها مكافأة الصفوف الأمامية..

ولعل اللافت في حراك الأشهر القليلة الماضية أمرين أولهما أن الأغلبية النيابية التي تشكلت في مجلس الأمة الحالي ليست ناتج تبلور برنامج عمل حقيقي وإنما تحت وطأة شعور شعبي بأن تراجع المحاسبة والرقابة الشعبية طيلة عقد مضى قادت الدولة إلى تخبط وفساد وأنتجت مراكز قوة بعيدة عن أن تطالها يد القانون أو أن تخضع لمحاسبة الأجهزة الرقابية في الدولة.. وحتى إن خضعت فإنها سرعان ما تتفلت من هذه الرقابة بحكم الشبكة العنكبوتية التي نسجتها في مواقع صنع واتخاذ القرار على جميع مستوياته.. وبالتالي فإن هذه الأغلبية سرعان ما يمكن أن تذوب مكوناتها تحت وطأة الإغراءات المستمرة وهو ما حدث فعليا إذ أن الحديث الآن عن عدد لا يتجاوز العشرين نائبا على الأكثر هم من لا يزالون يقاومون هذه الإغراءات ويتمسكون بمبدأ أن السيادة للأمة وإن تفاوت حجم تأثيرهم في ذلك على المشهد السياسي برمته.

أما الأمر الثاني فهو عدم وعي السلطة السياسية إلى عواقب المضي قدما في فرض الأمر الواقع والركون إلى أن حكومة الأقلية يمكنها السير باتزان وقيادة المشهد وطرح برامجها التنموية وأبعد من ذلك عدم استشعار الحرج السياسي حينما تصوت على مشاريع قوانين الموازنة العامة وقوفا عند باب قاعة مجلس الأمة التي احتلت المعارضة حينها مواقع الوزراء فيها.. وهو الأمر الذي قد يكرس ثقافة عامة مفادها أن المسار الديمقراطي الذي ارتضاه المجتمع الكويتي ملخصه أن بإمكان السلطة فعل ما تريد بعيدا عن رغبات الأمة عبر أدواتها والتي ليس من بينها إقناع ممثلي الأمة بشرعية وجودها حيث تتوجس دوما من امتلاك المعارضة الأصوات اللازمة للدفع بإعلان عدم التعاون مع رئيس الوزراء… ما سيدفع في مرحلة ما العناد السياسي إلى رفع سقف المطالبات باتجاه ديمقراطية كاملة الدسم بحكومة منتخبة أو رئيس وزراء ليس من الأسرة الحاكمة.
الآن وفي ظل استقالة الحكومة.. ثم الإصرار على تكليف رئيس الوزراء ذاته ليس من المأمول تجاوز الحكومة الجديدة اختبار الثقة.. إذ أن ضغط الشارع سيزيد حتما خلال المرحلة المقبلة خاصة وهو لا يجد خطوات جدية في التضييق على الفساد المالي والإداري المستعر في الدولة وما سيزيد الطين بلة أن الفلسفة الحكومية في مواجهة تحديات اضمحلال الثروة تتمثل في تقليم امتيازات المواطنين تدريجيا وهو ما يتضح جليا من الآراء التي يطلقها المقربون من دوائر صنع القرار أو منظري السلطة ممن كانوا قريبا منها في مراحل سابقة.. وحينها سيجد النواب المترددون أن القفز من سفينة الموالاة الخيار الأفضل لهم لتفقد الحكومة غطاءها النيابي مرة أخرى وتعود إلى مربع الصفر ما يعني إما الدعوة لانتخابات مبكرة أو طرح بديل لرئيس الوزراء يمهد لتغيير المشهد السياسي ومعادلة التحالفات المطروحة فيه إلى تحالفات جديدة يستسيغها الشارع ويتقبل تجربة التعامل معها على أمل أن تضع عربة المستقبل على طريق ممهد.

جاسم محمد الشمري