آراؤهم

ابدأوا بأدراج البرلمان

بحث مضنٍ استغرق 20 عاماً وصل أستاذا الاقتصاد جيمز روبنسون و دارون عاصم أوغلو (تركي من إسطنبول هاجر لأمريكا) لجواب السؤال الكبير لماذا تفشل بعض الدول بينما تنجح أخرى؟ أفرغوا جوابهم في الكتاب الشهير الصادر عام ٢٠١٢ الذي حمل عنوان “لماذا تفشل الأمم؟”
وصل الكويتيون بقناعاتهم لذات النتيجة التي توصل إليها الباحثان، ومن يستقرئ تاريخ الدول العربية وواقعها المُر سيوصله عقله لنتيجة مطابقة.

باختصار فإن السبب الرئيسي لفشل الدول هو عجز المؤسسات السياسية فيها عن أداء دورها. والمقصود بالمؤسسات السياسية أي سلطات الدولة الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية.
إن المؤسسات السياسية هي لُب النهضة ومصدر الفشل. ولو انغسمنا في واقع كل دولة عربية لوجدنا فترة نهوضها كانت مصحوبة ببناء مؤسسي وفترة انهيارها مصحوبة بعجز وترهّل سلطات الدولة الثلاث (مثال:مصر قبل ثورة يوليو و ما بعدها و سوريا قبل و بعد انقلاب البعث و ليبيا قبل و بعد انقلاب القذافي). فقد قرأت مرة أن وزير المالية الوفدي ذهب للسنهوري في بيته أثناء ترؤس الأخير لمجلس الدولة يطلب منه التنحي مقابل منصب آخر بذات المميزات فانتفض السنهوري و غضب ووجه للحكومة كتاب شديد اللهجة دوّنته كتب التاريخ مما جاء فيه ” وإن من واجبي هو أن أدفع اعتداءها (الحكومة) على كرامة المجلس وعلى استقلال القضاء وسأبقى في منصبي لأقوم بهذا الواجب…وإن بيني وبينكم دستور البلاد” وفعلاً بقي السنهوري في منصبه ولم تستطع الحكومة إزاحته لأن القضاء -حينها- كان محاطاً بقوانين تضمن استقلاليته صدرت عام 1943 تحميه من تدخل السلطتين، أي كما يجب أن يكون.

ومن المفارقات أن الاعتداء الشهير على السنهوري عام 1954 والذي هو في حقيقته اعتداء على القضاء المستقل كان بداية نقطة الانهيار في الدولة المصرية. ولو درسنا تاريخ الدول العربية -الفاشلة منها تحديداً -لوجدنا لحظة معينة انهارت فيها المؤسسات السياسية واختزلت في شخص أو مجموعة محددة من الأشخاص تأمر وتنهى وتتخذ مؤسسات الدولة أداة لتعزيز الطغيان.

لذلك أعتقد أن من واجب كل مرشح أن يدرك الأولوية القصوى في هذه اللحظة من تاريخ بلادنا. و بناء على هذا الإدراك عليه أن يضبط خطابه السياسي وعمله البرلماني بعد ذلك. فما المطلوب منهم تحديداً؟ المطلوب إعادة ترميم السلطات الثلاث بحيث تقوم كلاً منها بأداء دورها الدستوري بأعلى كفاءة ممكنة. وبعد بناء هذه الأعمدة يمكننا أن نتعارك على التفاصيل كما نشتهي.

وأبشّر النواب القادمين بأنهم لن يحتاجوا إلى بذل جهد مضاعف فكل ما عليهم فعله هو البحث عن قوانين قُدّمت في مجالس سابقة ووسّدت الأدراج وانهال عليها التراب. فإن كانت الأوراق سليمة الحال ولم تأكلها الأرضة فإنهم سيجدون قوانين تعزيز استقلالية القضاء إدارياً ومالياً وتكويته بالكامل وإصلاح الجهاز الإداري من أعلى الهرم إلى أسفله وذلك بضمان كفاءة القياديين ووقاية الشباب من الظلم والتعسف أثناء التعيين وكذلك قوانين مرتبطة بمجلس الأمة والطريق المؤدي إليه، كلها تشريعات قُدمت من رجال مخلصين كانت تعوزهم القوة السياسية لإقرار ما اقترحوا.

لابد أن تكون هذه نقطة البداية حتى تصبح هذه المؤسسات على قدر من المسؤولية للقيام بالأعمال الأكثر تعقيداً المتعلقة بإدارة الدولة كالاقتصاد والأمن الداخلي والحدودي و إدارة السياسة الخارجية و غيرها من أدوار الدولة المعروفة.
وقد ذكرت في بداية المقال أن الشعب وصل لهذه القناعة بنفسه لأني أتذكر أن الناس دفعوا السياسيين دفعاً للمشاركة في انتخابات 2016 وذلك عندما انهمرت عليهم القوانين المكبّلة للحريات وصدرت أحكام قاسية بحق الكثير وتفشّى الظلم في الجهات الحكومية وبين الموظفين ولم يكن هنالك أدنى رادع لهذه الأفعال. فوصل الناس حينها لقناعة أن المؤسسات السياسية هي المحرك الأساسي للواقع الذي نعيشه لذلك يجب أن يبدأ منها الإصلاح وبعد ذلك يمكننا أن نلتفت إلى التفاصيل التي ستكون تحت مظلة سلطات ثلاث نركن إليها بثقة.

وما حفزني لكتابة هذا المقال، خطابان سمعتهما أثناء الانتخابات الأول غارق في سباته وغير مستوعب لأهمية دروس الماضي والآخر يعلّق الإصلاح السياسي بإصلاح البرلمان فقط كتعديل اللائحة الداخلية أو قانون الانتخاب. بينما أعتقد أن الانطلاقة يجب أن تكون بإصلاح السلطات الثلاث وبالتوازي من خلال التشريعات أولاً.

عمر صلاح العبدالجادر