كتاب سبر

الاصلاحات الدستورية هي الحل

رغم إقرار الجميع بأن الدستور ليس قرآناً، وأن تعديل وتبديل الدساتير يُعدُّ إجراءً طبيعياً، بل مطلوباً في لحظات معينة من تاريخ الأمم، ورغم اتفاق منظّري القانون الدستوري حول العالم بالحاجة إلى ذلك، نظراً لقصور التشريعات البشرية وعجزها عن الإحاطة بحاجات المجتمعات في الأزمنة اللاحقة مهما أوتوا من حكمة وبصيرة، لكننا في الكويت مازلنا نعتبر أن مجرد التفكير في هذا الموضوع من المحرمّات السياسيّة التي تتطلّب الكثير من المدافعة والتبرير.
لعلَّ أهم أسباب هذه الحساسية المفرطة تجاه تعديل الدستور هي سوابق السلطة (غير الحميدة) تجاه هذه الوثيقة التاريخية والمدافعين عنها، حتى اقترن تنقيح الدستور في الذاكرة الجمعية الكويتية بانتهاكه وتقليص المكاسب الشعبية التي تحقّقت من خلاله.
لكن مع تفهم كل تلك المخاوف التي اقترنت بأحداث وظروف سياسية محدّدة، إلّا أن ذلك لا ينفي الحاجة للتعديلات الدستورية بعد مرور 60 عاماً على الحياة الدستورية في الكويت التي أثمرت الكثير من المكاسب وكذلك المعوقات التي لا يسع أحد انكارها.
أهم تلك المعوقات هي عضوية الوزراء (غير المنتخبين) في مجلس الأمة وهو ما يتناقض مع مبدأ فصل السلطات حيث ترتب عليه تعطيل انعقاد الكثير من الجلسات بسبب غياب الحكومة او انسحابها من الجلسات، وكذلك تصويتها في انتخابات الرئاسة واللجان البرلمانية، خلافاً للإرادة الشعبية في معظم الاحيان.
الأمر الآخر الذي لا يقلُّ أهمية هو فقدان الحكومة للغطاء السياسي وجعلها عرضة للاستجوابات المتكررة مما ترتب عليه سقوط الكثير من الحكومات، حتى أصبحنا نعدّ عمر الحكومة بالأيام، مما أفقد الكويت الاستقرار السياسي وجعلها تتخلف عن محيطها الإقليمي في سباق التنمية.
إنَّ مخاوفنا من بعض ممارسات السلطة غير الدستورية في مراحل سابقة جعلنا أسرى للماضي متجاهلين التطورات المحلية والعالمية، والوعي الشعبي المتراكم الذي بات يشكّل صمّام أمان لمسيرتنا الديموقراطية ورافعة لأي اصلاحات سياسية ودستورية منتظرة.

الذكرى الستّون لوضع الدستور

إنّ مرور الذكرى الستين لوضع الدستور (التي تتزامن مع حكومة مستقبلية لم تكمل يومها المائة) لا ينبغي أن تمر علينا مرور الكرام، فقد آن الأوان لمراجعة هذا العقد الاجتماعي الفريد الذي كتبه الآباء المؤسسون ليتناسب مع وعي واحتياجات المجتمع آنذاك. ولأن أسلافنا الذين وضعوا الدستور كانوا مدركين لسُنن التغيير، فإنهم لم يزعموا امتلاكهم لناصية الحقيقة المطلقة، بل تركوا الباب مفتوحاً لتنقيح الدستور وفق آليات محدّدة، بعد مرور خمسة أعوام من تطبيقه.
لقد أصابت استقالة الحكومة ال 41 برئاسة سمو الشيخ أحمد النوّاف الكثيرين بالصدمة والإحباط وأعادت الحديث عن الاستقرار السياسي (الغائب) إلى الواجهة مرة أخرى وهو ما ينبغي أن يدعو العقلاء في السلطتين والقوى السياسية و مؤسسات المجتمع المدني ذات الصلة للتفكير جدياً في إطلاق مبادرات وطنية تدعو إلى تصويب العملية السياسية من خلال تبني تعديلات دستورية وصولاً إلى الاستقرار السياسي المنشود.
يجب أن تكون لنا وقفة لمراجعة تجربتنا الديمقراطية طوال العقود الستة الماضية كما فعلت غيرنا من الأمم التي هدتها تلك المراجعات إلى تصويب تجاربها السياسية حتى تجاوزت مرحلة الاستقرار إلى التنمية والإنتاج، بل نقلت بعض الدول إلى قيادة العالم كما هو الحال في الولايات المتحدة وفرنسا.
لقد ساهمت الاصلاحات الدستورية التي بلغت 27 تعديلاً على دستور الولايات المتحدة (الدولة الفتية) الى قيادتها للعالم الحديث متجاوزة قوى عظمى عريقة سبقتها للهيمنة على العالم لقرون طويلة.
أما الجمهورية الفرنسية الخامسة التي أرسى قواعدها شارل ديغول فقد أُجريَ على دستورها الأخير الذي كتب في عام 1958 24 تعديلاً.
لم يقتصر نجاح الإصلاحات الدستورية على الغرب، فها هما ماليزيا وتركيا يغادران نادي الدول الفقيرة المتخلفة الى نادي الاقتصادات الناشئة، حيث يشكلان إضافةً نوعيّةً لمحيطهما الإقليمي والعالمي، لكن الواقع يشير أيضاً إلى أنهما لم يكتفيا بوضع دساتير متطورة، بل عَكَفَتَا على مراجعة تجربتهما الديمقراطية بين الفينة و الأخرى على مدار العقود الماضية.
فها هي تركيا التي شهدت أول تجربة دستورية في زمن الدولة العثمانية عام 1876 تضع بعد ذلك 4 دساتير ما بين عامي 1921- 1982 ثم تعدل على آخر دستور 18 مرة كان آخرها تغيير نظام الحكم من برلماني ضعيف إلى رئاسي ما جعلها دولة مستقرة قوية يحسب لها القاصي والداني ألف حساب. أما ماليزيا التي وضعت أول دستور لها عام 1957 فقد عدّلت عليه 57 مرة دون أي حساسيّة تجاه هذا الموضوع.
فقط نحن في الكويت نخشى الاصلاحات الدستورية “حفاظا” على تجربتنا الديموقراطية التي نراها تتآكل أمام أعيننا يوما بعد يوم دون أن نحرك ساكناً !
يا سادة يا كرام.. أيها العقلاء، لنخرج من أرض الجمود الضيقة إلى بحر الإصلاحات الواسع و لا تتوقعوا تغير الأحوال من تلقاء نفسها، ” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم “.

د.أحمد الذايدي