آراؤهم

غزة والتلال السوداء

واجه الرجل الأبيض ثورة صادمة من قبل السكان الأصليين في الأراضي الأمريكية عام 7618، فأثناء هاجس الزحف الاستيطاني وانتشاء النفس التوسعي من الساحل الشرقي الى الغربي، ضاقت عليه بعض النفوذ آنذاك حينما انبثقت الإرادة الشعبية من صميم الألم. فكما كان مخطط له هو ابتلاع مقاطعة جغرافية غنية بمواردها تدعى وطن لاكوتا Lakota Nation وتتمثل اليوم بأجزاء من الولايات الأمريكية الخمسة مجتمعة، وهم كلا من: ويامونغ وداكوتا الشمالية والجنوبية ونبراسكا ومونتانا. حيث جاءت حيلة الرجل الأبيض – المستوطن – بالاتفاق على ابتعاث فرقة استكشاف جيولوجية تنقب عن عينات معدنية بمنطقة “التلال السوداء”Black Hills والواقعة اليوم تحديدا بالجنوب الغربي من ولاية داكوتا الجنوبية. و جاءت هذه الخطوة بناء على أثر سابق في عام 1867 حين أبرمت معاهدة السلام الرسمية “فورت لارامي” Fort Laramie Treaty بين الرجل الأبيض وقبائل لاكوتا وهم كلا من: السو Souix و شايان Cheyenne و اراباهو Arapaho ، والمتعهدة بحد الاشتباكات المتبادلة وعدم المساس بموارد الطبيعية الواقعة بحيز وطنهم. إلى أن مرت السنوات ليدرك أصحاب الأرض تكرار خرق المعاهدة وعودة السلوك العبثي من تطلعات استيطانية وتحركات لسرقة معادن ثمينة كالذهب وتشريد بعض السكان قسرا من منطقة التلال السوداء. جاء في حينه تصعيدا يرفض تلك الانتهاكات، فاحتدمت لغة الخلاف وسرعان ما نتج عنها تعطيل العمل بالمعاهدة من قبل الرجل الأبيض مع منع أي نوع من المقاومة باستخدام القوة. وما كان غير متوقع آنذاك هو مقاومة الرجل الأبيض -عدوانيا- برغم فارق مقومات العتاد والحضور الاستراتيجي وثقة الاستعداد، حيث يأتي هذا الحدث من بعد مرور 001 عام من تاريخ الاستقلال الأمريكي من مستعمرات بريطانيا في 1776. مما يعني أن استقرار المكانة القومية واستدامة القبضة الأمنية قد ترسخت في مخيلة الرجل الأبيض. ورغم تلك المعطيات، تلاحمت قبائل لاكوتا الثلاثة – برغم نزاعاتهم التاريخية – وحدت رماحهم المتواضعة لردع الانتهاكات السافرة بحق أراضيهم، فتصاعدت الوتيرة لاندلاع معركة غير متوقعة النتائج.
معركة نهر صغير القرن الكبيرBattlefield Little Bighorn River طحنت رحاها. وحشد كلا الطرفين اعداده الهائلة بقرب النهر – المسمى بالمعركة. وكان على رأس بعثة الجيش الأمريكي المقدم جورج كاستر L.T Col. George Custerوالذي اكتسب شعبية كبيرة خلال الحرب الأهلية الأمريكية مما دعمت رتبته العسكرية وقواه المعنوية وأصداءه الجماهيرية. مع هذا، كانت روح أصحاب الأرض حاضرة والإيمان بالأحقية طاغي وشرف التضحية بالنفس يسمو بهم. فرغم فارق حجم ونوع السلاح بين الطرفين، انتهى المطاف بتمكن أصحاب الأرض من زمام المعركة ومحاوطة المقدم جورج كاستر ورجاله والخلاص منهم قتلا وأسرا. وحقق أبناء وطن لاكوتا نصرا غير مسبوق وحفظت الأراضي لفترة أكثر امتدادا، ولعل الأهم هو تسجيل موقف يحفظه التاريخ وتتوارثه الأجيال فخرا ببطولاته.
على وجه المقارنة مع فلسطين المحتلة وتحديدا قطاع غزة Gaza Strip، واعتزازا بمبدأ مجابهة المعتدي عبر تاريخ الأمم، والمضي المؤمن نحو التحرير، فإن تظافر الجهود الحركية للجبهات الثلاثة من غزة Gazaوالضفة الغربية West Bank وعرب الداخل Arab citizens of Israel سيبزغ فجر يضاعف نسبة وقوع الهزائم -معنوية على أقل تقدير. ولا داعي لترقب ميعاد ولادة إرادة على الصعيد الميداني، فالسابع من أكتوبر لعام 2023 ليس مجرد حلقة من سلسلة مناوشات تقليدية، بل حنكة استثنائية وتراكمية أبصر نورها منذ عام 1948، مما أوجدت مؤخرا نضال زعزع الكفة العسكرية وأرجح الحالة النفسية وآل لتحديات مدنية. فتردد اتخاذ القرار السياسي على حساب التدمير العشوائي من جهة، ودوي صافرات الإنذار واكتظاظ الموانئ الجوية من جهة أخرى يعكسان هذيان خصوصية الكيان الصهيوني. فلا يخفى بأن تبعات عملية “طوفان الأقصى” AL-Aqsa Flood أججت الأطراف الخارجية بشتى بقاع الأرض. حيث كرست التنديدات العالمية حالة من الأسى والذعر بروح المستوطن وحكومته التي تعاني من تراجع سياسي داخلي غير مسبوق. ووجود مقاومة فلسطينية بشكل دوري يؤثر سلبيا على مستوى الأمن، مما يذبذب طرديا الرغبة الاستيطانية بظل ارتجاج الأمان. وبتكرار هذا النهج وتوتر الحالة الأمنية الداخلية وانعكساتها الاقتصادية المستقبلية، سيتسبب أجلا أم عاجلا بنزوح معاكس – ولو جزئيا- لجغرافيا أخرى والأرجح العودة للوطن الأصلي لكل مستوطن. فالمفتقر لأساسات العيش الحضري لن يتشبث حلما بسردية الأرض الموعودة. ومهما بلغت طيلة أي احتلال فإن قياس استمراراه مرهون بالتكلفة وعوائدها النفعية. والمقاومة بأنواعها ما هي الا استنزاف تدريجي لحسابات المحتل.
لا يخفى بأن نموذج معاناة الإنسان من قبل الأخر قائم منذ طليعة الحياة. وعلى اعتبار أن التاريخ كفيل بتنقيح مآسيه وتخطي أشواكه، فقد ساهمت الحواضر البشرية منذ الأزل -قدر المستطاع- بتأصيل سبل العيش الكريم والقضاء بالحقوق على أعدل كيفية. وباستحداث مجتمع دولي وبرلمانات منتخبة وصحافة حرة ونقابات تمثيلية وهيئات حقوق إنسان وغيرها من مؤسسات مجتمع مدني، ينبغي عليه أن تتعالى موازين العدل تصريحا وتمكينا. وهذا على عكس ما نراه اليوم من قصف دون انقطاع وتحوير حجية الرواية وتهوين اثار ترسباتها في غزة. مما يلوح لجمود إنسانية القرن الواحد والعشرون حين يكون المعتدى عليه من جلدة العالم الثالث، فيقف عداد التاريخ حائرا بعصور ما قبل الوسطى. وعلى اعتبار أيضا أن التاريخ يجسد حالة من التكرار، فكما هو معلوم أحيانا أن الحقوق التي لا تمنح تنتزع، والخلاص من القيود قد يبدأ من اليد المقيدة ذاتها.
وأخيرا، مهما بلغ اليوم هول حجم وسرعة الخسائر البشرية الا إن ثمن التحرير يستوعب أقصى كم من التضحيات، غير أن الأهم انهم أحياء عند ربهم يرزقون. ورغم أن أصحاب أرض التلال السوداء من سكان أمريكا الأصليون لم يهيمنوا عمرا مديدا بامتلاكها الجغرافي، الا أن التاريخ لاحقا قدَر مجدهم وأنصف أجيالهم وعوض خسائرهم بقرارات المحاكم العليا، وشيدت صروح سياحية ترمز لمآثر زعامات وطنهم وتتجسد شرف تضحياتهم في محافل عديدة. فما هو بال أبناء الغد حين يأتي تحرير فلسطيني شامل من النهر الى البحر؟

براك البراك

2 تعليقات

أضغط هنا لإضافة تعليق