أقلامهم

جاسم بودي: كان هنا غسان تويني… «سر الأسرار»

 كان هنا … سر الأسرار!
 
جاسم بودي


 
كان هنا… يجلس على كرسي مكتبي وأجلس أنا على الكرسي المخصص للضيوف واضعا يدي على ذقني تماما كما كنت أفعل عندما يطلب منا استاذ المدرسة التركيز على أمر ما. اخشى اغماضة عين أو التفاتة سمع كي لا تفوتني حتى الفاصلة غير المنطوقة في كلامه، فهو الذي يصوغ العبارة بماء الذهب وعراقة التاريخ وغنى التجربة. يأسرك في محراب الحديث ويحرجك عندما يتوقف سائلا رأيك، ناسيا أنك لا تجاريه في القدرة على لملمة الأوراق وترتيبها والعودة السريعة من رحلة سفر الخيال التي رافقك فيها إلى واقع اللحظة… «عفوا استاذي، من يعطي رأيا في وجودك؟».


استاذي غسان تويني، أو العملاق غسان تويني، يرحل عن 86 عاما مستسلما بهدوء لإرادة القدر بعدما عجزت عواصف عن قهره أو احناء كتفيه. وقف خطيبا في رثاء والده وفي رثاء زوجته وفي رثاء أولاده الثلاثة وآخرهم العزيز جبران الذي كان «الاستاذ» يمر من أمام مكتبه في «النهار» بعد اغتياله ليفتح الباب ويسأله «كيفك؟ كيف حالك؟ أراك قريبا ولن يطول اللقاء». في مأتم جبران ابكى الجميع وهو يميز بين اغتيال فلذة كبده وبين اغتيال رسالة، وبين تفجير سيارة ابنه وبين تفجير وطن. لم تهزمه الأيام رغم قساوة سوادها ومرارة تجاربها. والد يقتل اغتيالا وطفلة يخطفها المرض وزوجة ترحل في عز شبابها وابن يسقط في حادث سير وجبران تنتهي حياته بالتفجير… أبكى الجميع قبل الوداع لكنه لم يستطع اخفاء دمعه وهو يحدثني عن حرقته على جبران وكيف أنه لم يستطع تقبيله كما أراد.


كان هنا… نلتقي كلما زار الكويت وكلما زرت بيروت، نتحدث عن التعاون المشترك بين «النهار» و«الراي» وهو العاشق للتجارب الجديدة. يتحدث عن المفاصل التي خاضها في حياته. صحافيا وأديبا ووزيرا وسفيرا ونائبا. يتحدث عن صرخته في الأمم المتحدة «دعوا شعبي يعيش» وعن وهم النظرة الشرقية إلى موقعنا في العالم وموقع العالم منا. أسس مدرسة نقلت السلطة الرابعة من مكان إلى آخر لكنه بقي مكانه ولم يغادره إلا إلى دار البقاء.
كان هنا… كان هناك… كان في كل مكان. هو هو. كان غسان تويني… «سر الأسرار».