أقلامهم

عودة “داحس والغبراء”

تعيش الأمة العربية اليوم زمن «داحس والغبراء»، عن رغبة وإرادة، أو عن غفلة وسذاجة؛ فمظاهر عصر داحس والغبراء حاضرة اليوم، وبشكل لافت وغير مسبوق، ومن هذه المظاهر عصبيات وتشرذم وإقليمية بين معظم دوله، تغذِّيه منافسة غير مشروعة وغيرة مؤلمة وتسابق محموم لتحقيق أمجاد زائفة، استهانةً بقيمة الإنسان وكرامته، بلغت حد السخرة والعبودية من جهة، والظلم والقهر القسري من جهة ثانية، فضلا عن غياب الإدارة الرشيدة بتفرُّد لا يعبأ بالرأي، ولا يقدِّر المشورة، مصحوبا بتبديد للثروة وإفساد للذمم وضياع لأسس تعمير البلاد ولاستقرار الدولة، بل هناك تزايد بظواهر التملّق والمديح، وكما في أشعار حقبة داحس والغبراء تمثّلت بظهور منابر إعلامية تشيع هذه الثقافة وتغذيها، وتطاول في البنيان وتشييد للمباني، يقابله تواري العلم وإهمال العلوم أو قصور في توظيفها للتطوير، والتمسُّك بالقشور.
لقد تخلَّت الأمة العربية عن سر تميّزها، الذي خصّها بها الله تعالى، ألا وهو أن الله أعزها بالإسلام، الذي أعاد صياغتها وجعلها «خير أمة أُخرجت للناس»، تتّسم بعلو الهمة وكمال الإخلاق والوسطية وإشاعة المعروف والخير إن تفرّداً أو تعاوناً مع الآخرين، وتسعى الى منح الإنسان حريته وتدافع عن إنسانيته وكرامته، وتخرج الناس من عبودية البشر للتسليم لرب الناس وحده، بل وتشيع قيم المساواة والعدل ووأد التفرقة والعصبيات، التي كانت سبباً للشتات والضعف وطمع الآخرين بها كأمة. فلا قيمة للعروبة بلا رسالة الإسلام وإرساء مقاصده، وهو سر تميّز الأمة العربية عند اقترانها به ومكمن ضعفها وتمزّقها، إن ابتعدت عنه.
لقد تداعت الأمم القديمة الجديدة اليوم على اقتسام الأمة، فعاد الروم والفرس واليهود ليتدخلوا في شؤون البعض ويسيّروا شؤون البعض الآخر، كما كان الأمر في حقبة وزمن داحس والغبراء بأسماء جديدة وبلاد مغايرة، ولكن بنفس الكيانات السابقة للروم والفرس واليهود، فها هي أميركا وأوروبا وروسيا ومن يدور في فلكهم يمثلون الروم في جميع مكوناتهم، وها هي إيران الفارسية حقيقة ومضموناً تعود من جديد بفكرها وحقيقتها وطبيعتها الفارسية مضموناً وواقعاً، وها هم الصهاينة يعيشون حقبة التجدد للخبث والتآمر والدسيسة وبث الفرقة وتحريض بعضنا على بعض، على نهج بني قريظة وبني قينقاع وبني النضير، الذين كانوا يمارسونه ضد العرب بخبث ودهاء وتخطيط، حتى الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يسلم من مكرهم وخبثهم، ولكن وقعوا في شر أعمالهم؛ ففطن بهم وأجلاهم (عليه الصلاة والسلام)، مسدلا الستار على هيمنتهم وتغلغلهم الناعم.
إن بناء مجد أمة عربية عزيزة ومنيعة لا يمكن أن يولد من جديد، في ظل فرقة وتشرذم «بأسها بينها شديد»، إذ إنها لم تدرك ولا ترغب في التحرر عن فكر داحس والغبراء تسعى لوخز أعينها بأصابعها سذاجة أو تعمدا، تُسخر كل طاقاتها وأموالها وأراضيها مرتعا للغير من الروم والفرس واليهود، ممن يستغل تشتتها ويغذي فرقتها بأموالها، بل ويحوّل أراضيها مسرحا لأطماعه وأحقاده وللنيل منها.
إن بناء أمة منيعة وعزيزة لا بد لها من طَيّ صفحة الفرقة والعودة لمكامن قوتها تنطلق من وحدة وتفاهم وعيش حقيقي للمصير المشترك، سندها دين تم فصلها عنه فذاقت الهوان والذل والضعف به حقّقت عزتها فيه، ومن خلاله تتجلى وحدتها، إنسانها عزيز غالٍ كريم بعزة وإسلاماه وايعرباه، فتنتفض الأمة هبة لنصرته والدفاع عنه، والإنسان الذي كرّمه الله يجب أن يكون محورها، هناك وهناك فقط نكون قد أقصينا فكر «داحس والغبراء» للأبد.