كتاب سبر

حلب تستغيث بأهل الشهامة والنخوة

تأثرت كثيراً وأنا أقرأ مقال أخي وصديقي الأستاذ زهير سالم الذي كتبه يوم 6/7/2014 تحت عنوان “حلب تستغيث الذين خذلوها فهل يغيثون؟” وتألمت كثيراً لما انتاب أخي زهير من أوجاع وآلام وهو ينتقي كلمات مقاله التي غرفها من بحر العذابات والعتب والشجون، وكانت ذروة آلامي ما قاله: “بعض الناس اصطنعوا لأنفسهم ثأرا تاريخيا عند شخص سموه باسمه أكثر من مرة على محطات الفضاء ليتهربوا به من تحمل مسئوليتهم التاريخية ثم ها هم أولاء يلقون إثم جريمة ذلك الشخص المتوهمة المتخيلة المدعاة على مدينة بأسرها ويسرون حسوا في ارتغاء وهم يثأرون من اليتيم والأرملة من أبنائها …”.
وأنهى أخي زهير مقاله بمرارة مغلفة بالتحذير قائلاً: “وإن جرى على حلب اليوم أمر نكرهه وقد صنعتم فيها الكثير مما كرهناه من قبل فستبؤون بإثمه وتتحملون وزره كاملا غير منقوص . واحذروا لعنة التاريخ أن تلزمكم وأنتم لا تشعرون. 
حلب اليوم تستغيث الذين خذلوها وتفننوا في الانتقام منها على مدى أربعين شهرا من عمر الثورة ونحذرهم اليوم أن يتمادوا في خذلانهم وأن يصموا عن نداء الحق آذانهم . وإنه لأمر جد وليس بالهزل…”. 
أخي زهير عرف حلب فهو ابنها البار؛ وعرف موقعها في عمق التاريخ؛ وعرف عراقتها ومركزيتها في النهضة والثقافة الإسلامية والعربية، ومن هنا كان لابد أن يتملكه الحزن والأسى إزاء محنتها الراهنة، فهذه المدينة التاريخية المحاصرة اليوم بالدم والنار، امتازت منذ القرن السادس عشر بمركزها التجاري كمنطقة مهمة في طريق المواصلات إلى أوروبا وكمحطة كبرى للطرق الداخلية بحيث اعتبرت مركزاً مهماً للتجارة الدولية في الدولة العثمانية وملتقى للمبادلات العالمية بين قارتي أوروبا وآسيا.
لقد أجمعت مصادر التاريخ على أن النهضة التي عمت بلاد الشام في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان بدؤها في حلب في القرن الثامن عشر، ومن حلب امتدت شعلة الأدب العربي إلى مشرق العرب ومغربه، وفي ذلك يقول مارون عبود: “عن حلب الشهباء أخذ لبنان لغة الضاد”.
وفي حلب الشهباء أمضى الشيخ عبدالرحمن الكواكبي حياته مقارعاً الاستبداد مدافعاً عن المظلومين والمضطهدين، ومنها فر إلى القاهرة حيث طبع كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” وكان أول نقد منهجي جذري في الفكر العربي للاستبداد وآثاره الوخيمة على السياسة والتربية والأخلاق، وقد كان هذا الكتاب السبب في استشهاده مسموماً عام 1902.
كل هذه الإنجازات الكبرى كان وراءها بيئة اجتماعية حاضنة بعيدة عن الأحقاد الطائفية، ففي حين زلزلت الفتن جبل لبنان ودمشق عام 1860 ظلت حلب في منأى عن الويلات التي لحقت باللبنانيين والدمشقيين، وعاش أهلها في مودة وسلام، ولم تكن بعض الأحداث المحدودة التي ضربتها في خمسينات القرن التاسع عشر ذات خلفية طائفية.
هذه هي حلب وهذا هو تاريخها ومن حق الأخ زهير أن يتألم لما أصابها ولما صارت إليه وقد خذلها الكل..!!
وشاء القدر وأنا أهم بكتابة مقالي هذا أن التقيت بولدي، بعد أربعة شهور رغم قربه مني، وكان اللقاء حميمياً وللحظات أمضيتها وإياه في عناق، وودعني معتذراً فأمامه واجبات كبيرة ومسؤوليات جسيمة، وكل ما سمعته منه وهو يودعني: “لقد خذلونا.. ما لنا إلا الله.. ادعو لي”…
ولدي هذا حفظه الله وحفظ إخوانه وثبتهم هو أحد قادة لواء التوحيد الميدانيين والمسؤول عن قطاع من أهم قطاعات حلب المحررة!!
أقول لأخي زهير سالم ولست بأقل منه حزناً وتألما على ما صارت إليه الأمور في حلب الشهباء: 
لا يعيب حلب تأخرها في خوض غمار الثورة فقد كان بركانها يغلي وهي ذات السبعة ملايين من الناس متنوعي المشارب والتوجهات وقد اهتم بها النظام اهتماماً خاصاً كونها المدينة الصناعية والتجارية وعقدة المواصلات التي تربط الخطوط التجارية بين آسيا وأوروبا، وقد نعم أهلها ببحبوحة من العيش خلاف معظم المحافظات السورية، وكانت منذ الاستقلال سلة سورية الغذائية ومعين اقتصادها، ففي حلب المئات من المدن الصناعية المتطورة والحديثة التي كانت تنافس الصناعة الأوروبية وتتقدم عليها في كثير من المنتجات الأكثر رواجاً في العالم، ويعود ذلك إلى نباهة أهلها وخبرتهم في تطوير الصناعة واستثمار رؤوس الأموال والهيمنة على الأسواق التجارية. 
لم تكن حلب بعيدة عما يجري في باقي المدن السورية والريف الحلبي من مظاهرات وانتفاضات فقد كان العديد من الشباب الحلبي يشارك في معظم هذه الفعاليات في الريف، ما لبث أن نقلها إلى قلب مدينة حلب بمشاركة من شباب الريف ودعمهم حتى باتت الأحياء الحلبية والجامعات والمدارس تؤرق النظام، وقد ظن أن حلب ملك يمينه بما زرع فيها من عيون وأفسد من عقول (أكثر من أربعين ألف من الشبيحة ومثلهم من رجال الأمن ومثلهم من المخبرين وعلماء السوء).
وكان بركان حلب الذي هز أركان النظام.. فقد انتفضت المدينة مرة واحدة فأربكت النظام وخلخلت بنيانه، وتقدمت جحافل الثوار من كل حدب وصوب تطبق على المدينة وتحرر أحياءها حياً بعد حي وانحسرت مواقع النظام وباتت تعيش فرق شبيحته وفصائل جيشه في جزر معزولة هنا وهناك، رغم ما ضخ في معركته مع الثوار المئات من المدرعات والآليات الثقيلة ومدفعية الميدان تحت غطاء جوي لا يتوقف عن دك المدينة وبلدات وقرى ريفها المترامي الأطراف بالبراميل المتفجرة والفراغية والحارقة حتى باتت معظم أحياء حلب وريفها خرائب مدمرة وقد هجرها من تبقى من أهلها على قيد الحياة طلباً للنجاة من جحيم ما يلقي النظام من براميل الموت والدمار عليها.
وبعد أكثر من ثلاث سنوات من الصمود البطولي للمدينة الباسلة وحزام ريفها المتماسك بدأت عزيمة المقاتلين تفتر، ليس عن جبن أو خوف أو خلل أصابها، وقد خذلها كل الناس القاصي والداني فلم يعد لدى الثوار من سلاح وعتاد يقاوم به ترسانة النظام الجهنمية المدعومة من روسيا وإيران والضاحية الجنوبية والمنطقة الخضراء في بغداد وفرق الحقد الطائفي القادمة منها.
وتمكن النظام من التقدم في بعض الأحياء الاستراتيجية والمهمة في حلب، وكان مقاتلو دولة العراق والشام يراقبون هذا التقدم دون أن يفعلوا أي شيء لوقفه أو عرقلته أو حتى تقديم المساعدة للثوار، لاعتقادهم أن الثوار والجيش الحر هم من المرتدين ومحاربتهم تقدم على محاربة النظام، وقد يكون هناك اتفاق (جنتلمان) بين النظام ودولة العراق والشام، وقد ظهر مثل هذا الموقف لدولة العراق والشام في أكثر من منطقة احتكاك بين النظام والثوار، وفي بعض الحالات كان الثوار يستقبلون القذائف من قبل النظام والدولة في نفس الوقت كما يحدث حالياً في دير الزور والغوطة الشرقية في ريف دمشق. 
أمام هذه الحالة الصعبة لم يعد أمام الثوار إلا أن يستغيثوا بأهل النخوة مستصرخين ضمائرهم، فسقوط حلب، لا سمح الله، بيد النظام سيجعل الثورة في خطر وأيما خطر وينتج عنها تداعيات ما بعدها من تداعيات، أقلها ارتكاب النظام المذابح والمجازر بحق أهلها وهذا أمر واقع لا محالة؛ إن لم تؤخذ استغاثة الثوار على محمل الجد والإسراع في تقديم الدعم بكل أشكاله لتلافي سقوط أحياء حلب المحررة بيد الجزار ثانية والإجهاز على ما تبقى من أهلها، الأيام القليلة القابلة هي الحد الفاصل بين موقف المتخاذلين وموقف أهل الشهامة.